عندما أصدر المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما كتابه الشهير "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" عام 1992، وأثار أصداء واسعة بمقولته: إن الديمقراطية الليبرالية بقيمها عن الحرية والفردية والمساواة والسيادة الشعبية ومبادئ الليبرالية الاقتصادية تشكل المرحلة النهائية للتطور الأيديولوجي للإنسان. لم يتوقع أن مقولته لن تصمد طويلاً أمام المتغيرات السريعة التي تعصف بالنظم السياسية والاقتصادية وكل الأيديولوجيات التي عرفها الإنسان، وأن مياهاً كثيرة ستجري وتجرف هذه المقولة، وتجعلها في ذمة التاريخ كغيرها من المقولات التي تحاول وضع نهايات حتمية للمتغيرات.
فالإرهاب الذي ضرب المجتمعات الغربية والأميركية، أثبت هشاشة الحكم الديمقراطي في حماية مجتمعاته من المد الإرهابي، كما أثبت عجز آليات الديمقراطية في مواجهة الإرهابيين، بسبب تغليبها الجانب الحقوقي، على الجانب الأمني. الإرهاب من جهة وموجات الهجرة المتصاعدة هرباً من بلاد منكوبة بالقمع والإرهاب من جهة ثانية، وارتفاع معدلات تناسل الجاليات المقيمة من جهة ثالثة، أثارت مخاوف المد اليميني الشعبوي، فتصاعد وانتشر في مجتمعات ديمقراطية عريقة، فأصبحت القيم الليبرالية مهددة بالتضييق والانتهاك في عقر دارها، وتصاعدت محنة الديمقراطية بوصول شخصيات شعبوية، لا تأبه بالقيم الديمقراطية إلى سدة الحكم، هذا في العالم الحر، أما في عالمنا العربي فانحسر المسار الديمقراطي عقب ثورات الربيع، فتقلصت حريات التعبير والحريات الإعلامية، واشتدت القبضة الأمنية في مختلف دول المنطقة، وتم التضييق على النشطاء والمغردين، وزج ببعضهم في السجون. وبحسب آخر دراسة استطلاعية صادرة عن المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، عن حال الديمقراطية في 10 دول عربية، فقد تدهورت الديمقراطية إلى 571 نقطة من 581 نقطة على مقياس من 1000 نقطة، وحتى شعوب المنطقة تراجعت قناعاتها بالديمقراطية حلاً للمشكلات الاقتصادية والبطالة والأمن، بعد أن حققت دول عديدة تقدما اقتصادياً سريعاً بغير طريق الديمقراطية كالصين مثلاً. لقد تراجعت الديمقراطية في أكثر من 50 دولة، فاليوم نجد رئيس العالم الحر، الرئيس ترامب، يجلس مع زعيم دكتاتوري في قمة تاريخية يمتدحه فيها! قد يحصل الزعيمان على نوبل السلام، لكن الديمقراطية اليوم في محنة!الولايات المتحدة، ومنذ سقوط جدار برلين، قوضت 6 نظم مستبدة، وأطاحت بدكتاتوريات، وخلصت العالم من طغاة سفاحين وكانت تربط مساعداتها بمقياس التقدم في حقوق الإنسان والحريات. ولعلنا نتذكر حماسة الرئيس بوش في نشر مبادرته للديمقراطية وإقامة الحكم الصالح، لدرجة فرضها على دول المنطقة كرهاً بالعصا، لأن الطغاة لن يرحلوا إلا إذا سقطت القنابل، ليكون النظام الصدامي أول ضحاياه، وأذكر أني تحمست في حينه، وقلت في حوار مع مجلة المجالس الكويتية: أميركا لم تحرر دولة من طاغيتها إلا وتركتها أكثر رخاء وديمقراطية، نعم حصلت انفراجة في الحقوق والحريات، وحصل تقدم في حقوق المرأة خاصة، وازدحمت الساحة بمشاريع الإصلاح، حتى قال الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى: إن السماء تمطر مبادرات ومشاريع للإصلاح! لكن أنظمتنا كانت أذكى من أن تجري إصلاحات حقيقية شاملة، فتظاهرت بقبولها، لكنها تحايلت وأدخلت إصلاحات جزئية شكلية إرضاء لواشنطن، ثم جاء أوباما الرئيس الطيب الحالم ليخفف قبضته، ويعلن أن شعوب المنطقة أدرى بشؤونها وهي المسؤولة عن نزع شوكها من ظهرها، تبعاً للمنطق الأوروربي الانتهازي، ومع ذلك تظاهر بأنه يشجع التوجه الديمقراطي، وصولاً إلى ترامب الذي فض يده تماماً من قيم الديمقراطية لصالح أميركا أولاً، وعلى الجميع دفع جزية الحماية، كم تغيرت أميركا!ختاماً: في عالم مضطرب لم تعد قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان أولوية، وعلى الدعاة والنشطاء في حقوق الإنسان ألا ينتظروا مساندة أو دعماً من العالم الحر المهموم بمشاكله والمنشغل بمصالحه، أما في منطقتنا فلا أرى مستقبلاً مزدهراً للديمقراطية في الأمد القريب، لأن الإعجاب بحكم الفرد ثقافة راسخة الجذور في الوعي الجمعي العربي، وله امتداد طويل في العمق التاريخي، محصن بتراث فقهي، فالعربي لا يجد في الحكم الفردي نقيصة، لأنه هو نفسه يمارسه في حياته اليومية: بيته، مدرسته، عمله، علاقاته بالآخرين، ولأن القناعات بجدوى الديمقراطية في تحقيق التنمية والتقدم والأمن قد تزعزعت. * كاتب قطري
مقالات
قمة ترامب كيم: وداعاً للديمقراطية
18-06-2018