يشهد الخطاب الديني، والخطاب المتشدد بالذات، ارتباكا كبيرا في الخطاب الذي اعتاد تقديمه للجمهور، وسط تغيرات اجتماعية يحاول هذا الخطاب تجاهلها أو تحجيمها قدر استطاعته. في المقابل يفشل الخطاب الديني المعتدل في مواجهة ذلك التشدد، كما يفشل الخطاب التنويري في احتلال موقعه المفترض، لأسباب كثيرة نحاول تناولها وفهمها. ارتبك أغلب ممثلي الخطاب الديني، فليس بمقدورهم الوقوف في وجه التغيرات الأخيرة التي فرضتها السلطة، التي اعتادت في يوم ما احتضانهم، واعتادوا على الاعتماد عليها في فرض آرائهم وفكرهم، وانصياع الجمهور لهذه الآراء حين وجد نفسه بين سنديان السلطة السياسية ومطرقة الفكر الديني. أثبتت الأيام بعد تراجع هذا الخطاب وتغيير السلطة لسياستها التي احتوته أن الجمهور كان مستسلما تحت واقع لم يقبله أو يتقبله، واقع لم يتعايش معه إلا رغما عنه، ولم يقتنع به، رغم طول سطوته وزمن انصياع الجمهور له. المتابع لفرسان الخطاب الديني المتشدد حاليا يشهد تراجعا مثيرا نحو التأقلم مع الطروحات السياسية الجديدة في سبيل التغير الاجتماعي والانفتاح على ثقافة جديدة مغايرة، فهو يعيش مرحلة أقرب إلى الانهيار. ليس بإمكانه الاستمرار في نهجه الفكري السابق ولا التراجع عنه والاعتراف بفشله، وفي الوقت نفسه ليس له الرغبة بالانسحاب من الساحة والابتعاد ليحل خطاب معتدل مكانه. ولو فعل ذلك لفعل حسنا. بعض رموز هذا التيار ترك مهمة الدعوة للجهاد التي تبناها طيلة السنوات الماضية ولجأ للنشاط الإعلاني وتسويق العود والبخور والبضائع الأخرى، والآخرون آثروا الصمت عن الاعتذار.
لا يمكن أن ننكر أن القرار السياسي نحو تغيير صيغة هذا الخطاب هو الذي ساهم في رفع الهيمنة التي استغلها لفرض سطوته. لكننا أيضا نشاهد الرغبة المجتمعية في التخلص من نير هذا الخطاب وهيمنته. هذه الرغبة هي التي كشفت لأصحاب التيار أن المجتمع لم يكن يمتلك خياره الحقيقي، وحين امتلكه خرج بسرعة مفاجئة عن أدبيات هذا الخطاب. ستشهد الأيام المقبلة انسحاب كثيرين من تحت بساط هذا الخطاب الديني، والعودة إلى خطاب الاعتدال الذي كان عليه المجتمع في السبعينيات وقبل استفحال التشدد وكبت حريات الناس الثقافية والاجتماعية باسم الدين. الذي يعتقد أن التغير الحالي في الحياة الاجتماعية يخص المجتمع السعودي دون غيره ينظر للأمور بقصر نظر شديد. الحقيقة أن التيار الديني المتشدد، ومنذ تحرير الكويت، استطاع فرض هيمنته، ولم يوقفه سوى عدم تقبل المجتمع، بأطيافه المختلفة، له. انتشر هذا الخطاب في المؤسسة الدينية وبعض رجالات المؤسسة البرلمانية، واستطاع أن يحتل مكانا شبه رسمي في الدولة، التي رضخت أحيانا لهذه الأصوات، فمنعت ندوة هنا وكتابا هناك، في محاولة لكسب ودِّ هؤلاء الرجالات، وكان التصدي لهذه الأصوات خافتا لدرجة غامضة. لم ينهض تيار فكري تنويري يواجه هذا الخطاب وسلوكه، لم تقف جمعيات النفع العام التي تتبنى الفكر التحرري في وجه هذا الخطاب، ولم يجد الشباب سوى اللجوء للمحاكم في سبيل الدفاع عن كتبهم وأفكارهم.ليست هذه المرة الأولى التي نطالب فيها التيار التنويري بأن يجتمع مرة أخرى ويعيد ترتيب بيته وأفكاره في ظروف مناسبة ومواتية للتصدي لخطاب الإقصاء. لا نطالب هنا بالعداء للخطاب الديني المعتدل والتعددي، بل بالعكس، الوقوف معه كبديل لخطاب متشدد لم يعد مقبولا اجتماعيا.
توابل - ثقافات
نحو خطاب ديني معتدل
19-06-2018