خفتت جذوة التعاملات بالعملات الرقمية خلال الاشهر الماضية بعد أن بلغت ذروتها في مطلع العام الحالي حين بلغت قيمتها السوقية وقتئذٍ أكثر من 832 مليار دولار قبل أن تتراجع قيمتها بشكل حاد نهاية الأسبوع الماضي عند 280.3 ملياراً بخسارة تتجاوز 66 في المئة، أي ثلثي القيمة خلال أقل من 6 أشهر, بينما تعرضت العملة الاكثر شعبية، وبينها "بتكوين"، لخسائر قاسية ناهزت 60 في المئة، أي 200 مليار دولار. ومثلما يقول المثل الشعبي: "راحت السكرة وجت الفكرة" للتدليل على انتهاء النشوة أو تلاشيها ومواجهة الواقع، فإن ما حل بالعملات الرقمية منذ مطلع العام الحالي أكبر من أن يقاس بخسارة القيمة السوقية بل يتجاوزها إلى كيان هذه العملات كأداة مفترضة للاستثمار أو سلعة للمضاربة، ناهيك عن التعويل عليها كعملة منافسة للعملات التقليدية.
أمن منخفض
وتقتضي ابسط قواعد التداول في العملات أو السلع وجود درجة مقبولة من الامان تضمن سلامة التعاملات بلا سرقات أو احتيال وهو ما لم يتحقق في أكثر من حالة، كان اخرها سرقة 33 مليون دولار من منصة لتداول العملات الرقمية في كوريا الجنوبية هذا الشهر، رغم أن لجنة الاوراق المالية الكورية شددت مطلع العام الحالي إجراءات الرقابة والحماية لمنصات العملات الرقمية بعد سرقة منصة عملات رقمية قيمتها 534 مليون دولار من منصة "كوينشيك" اليابانية... فضلاً عن عملية سرقة أخرى لمنصة بيت غريل الإيطالية التي تتداول بالعملات الافتراضية، اذ خسرت حوالي 17 مليون رمز لعملة رقمية تدعى "نانو" تبلغ قيمتها السوقية نحو 170 مليون دولار، كما اعلنت بورصة العملات الرقمية الكورية الجنوبية "بيثامب" أمس أنها علقت عمليات الإيداع والسحب مؤقتاً بعدما تمت سرقة عملات بقيمة 30 مليون دولار، مما يشير إلى أن عمليات السرقة والاختراق للمنصات باتت مألوفة ومستمرة.تشدد عالمي
وبينما بدأ العام الحالي بتشديد هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية على أن العملات الرقمية التي يتم تداولها على منصات إلكترونية تحتوي على مظاهر مخادعة يصعب ضبطها وأن الهيئات التنظيمية ليس لديها وسيلة مناسبة للسيطرة على سرقات هذه العملات أو حمايتها إلى جانب وصف لجنة مكافحة الإرهاب الأميركية غياب السلطة والسيطرة على أسواق هذه العملات بـ"الـفجوة" التي تسمح بمسارات خفية لغسل الأموال وتمويل الارهاب، فإن تقريرا صدر هذا الأسبوع من بنك التسويات الدولي BIS الذي يعد بمثابة البنك المركزي العالمي اعتبر أن العملات الرقمية مثل بتكوين وإيثريوم ولايتكوين وغيرها خطيرة وضارة وعديمة القيمة ووسيلة لانهيار قيمة الأصول. لكنه ميز بين العملات الرقمية وبين تكنولوجيا التعامل بها "بلوكتشين" والتي انتشر استخدامها مؤخرا لوجود قاعدة أمان تقني تمهد لخلق قاعدة من انظمة المدفوعات المعتمدة لدى البنوك المركزية العالمية.بالطبع هذه التصريحات تجعل من العملات الرقمية اداة مالية "مارقة" خارج إطار النظام المالي العالمي مما يقلل قيمتها الاقتصادية قبل المالية ويجعلها عرضة أكثر لتهديدات تتعلق بكيانها لا سعرها فقط.رفض المتاجر الإلكترونية
من الاخبار المثبطة للمراهنين على العملات الرقمية هذا العام ما نشره مصرف "مورغان ستانلي" عن مدى اقبال المتاجر الالكترونية على اعتماد العملات الرقمية، اذ كشف المصرف أن 4 فقط من أكبر 500 متجر تجزئة إلكتروني في الولايات المتحدة قبلت عملات رقمية في معاملاتها خلال الربع الأول من 2018، مقارنة بثلاثة في بداية عام 2017 فيما كانت التوقعات عند بلوغ هذا العملات ذروة أسعارها تشير إلى أن ما لا يقل عن 70 متجرا الكترونيا ستعتمد العملات الرقمية بالربع الأول من العام الحالي... وهو ما يبين محدودية الثقة بهذه العملات كأداة سداد معتمدة في السوق الفعلية.مصداقية أحجام التداول
أما أسوأ ما تعرضت له العملات الرقمية فهو تنامي الشكوك في مصداقية احجام التداول على معظم بورصات العملات الرقمية وترجيح أن تكون هذه التعاملات المليارية الكبيرة وهمية أو مبالغا فيها أو مكررة بعد اختبارات لمتداول عملات رقمية يدعى "سيلفين رايبز" لمنصات تداول ذات أحجام كبيرة، فوجد أن بيع عملات رقمية بقيمة صغيرة 50 ألف دولار على منصة تداول "جداكس" ادى إلى انخفاض بنسبة 0.1 في المئة فقط، فيما أدى بيع عملات رقمية بنفس المبلغ على منصة تداول "أوكي إكس" إلى حدوث تراجعات لافتة تجاوزت 4 في المئة، وباتت سجلات الطلبات غير مستقرة، مما يشير إلى أن أحجام التداول على "أوكي إكس" وغيرها من البورصات ذات النتائج المشابهة ملفقة ومضخمة، لأنها في الحقيقية اسواق غير سائلة، وإن ظهرت احجام التداول بمليارات الدولارات. وتعززت الشكوك في مصداقية أحجام التداول أكثر , عندما صرح "تشانغ بنغ تشاو"، الرئيس التنفيذي لبورصة باينانس التي تعد أكبر بورصة للعملات الرقمية في العالم، أن بحث "رايبز" هو "تحليلٌ معمق جيد" لسوق العملات الرقمية.فقاعة
دون شك لم تكن التداولات الساخنة على العملات الرقمية أكثر من كونها فقاعة بامتياز ناقضت لفترة وجيزة منطق الاسواق والاقتصاد، لكنها لم تدم أكثر مما كان يمكن لها أن تستمر لتقدم دروسا عديدة، أهمها أن تضخم سعر الأصل لا يمكن أن يستمر دون أن يكون هناك ثمة علاقة حقيقية بقيمته الفعلية أو استخداماته في السوق، وأن الطمع إذا امتزج بالمخاطرة وعدم بذل مجهود إنتاجي فإن احتمالات الانهيار، خصوصا على المستثمرين تكون عالية وان دول العالم لن تسمح بوجود سلعة أو عملة يكتنفها هذا القدر العالي من المخاطر الأمنية، فيما يتعلق بجرائم غسل الأموال وتمويل الارهاب إضافة إلى احتمالات الاختراق وسرقة الأموال، ناهيك عن المخاطر النظامية، لأنها مجهولة الهوية وبلا مصدر معتمد وغير خاضعة لقواعد السياسات النقدية التي تتبعها البنوك المركزية عالميا... فهل استوعب المغامرون الدرس؟!