في ٢٥ مايو، خلال «منتدى سان بطرسبورغ الاقتصادي الدولي» السنوي، وقع ممثلون عن «حكومة إقليم كردستان» وشركة النفط الروسية العملاقة «روسنفت» اتفاقية جديدة لتطوير البنية التحتية للغاز الطبيعي في «إقليم كردستان». واستنادا إلى صفقة سابقة تم التوقيع عليها في المنتدى الذي عقد العام الماضي، وافقت «روسنفت» على بناء خط أنابيب غاز إلى تركيا يستوعب ٣٠ مليار متر مكعب سنويا، مما يوسع بشكل ملحوظ نطاق موسكو في قطاع الطاقة في الشرق الأوسط. وقد أكد الرئيس فلاديمير بوتين في مؤتمر صحافي أن العقود مع «حكومة إقليم كردستان» «واعدة» و»واسعة النطاق».ولأن الأكراد ضعفاء جدا ومفككون بحيث لا يتمتعون بالقدر الكافي من النفوذ السياسي للتأثير على العراق، تراهم يبحثون عن دولة راعية جديدة نظرا إلى ما يعتبرونه غياب استراتيجية أميركية متماسكة في الشرق الأوسط. وفي ٩ مايو، وضع رئيس وزراء «حكومة إقليم كردستان» نيجيرفان بارزاني الحملة الانتخابية العراقية الوشيكة جانبا وغادر إلى موسكو بدعوة من الرئيس التنفيذي لشركة «روسنفت» إيغور سيشين، وهو أحد الزملاء الأقوياء والمقربين من الرئيس بوتين. وسابقا، حذر رئيس «إقليم كردستان» مسعود بارزاني من أنه «سيعيد النظر جديا في العلاقة» مع واشنطن، وأن الكرملين مستعد تماما لمساعدته في تنفيذ هذا التحول. ومن خلال هذه الخطوة، قد يحاول الرئيس بارزاني إعادة إحياء شراكة تاريخية بلغت ذروتها خلال انتفاضة والده في أربعينيات القرن العشرين.
روسيا والاستفتاء الكردي
وصلت «حكومة إقليم كردستان» حاليا إلى أقصى مستويات ضعفها منذ حرب العراق عام 2003 ، ويعزى ذلك إلى حد كبير إلى استفتاء الاستقلال السيئ التوقيت الذي أجري في سبتمبر الماضي.عودة موسكو إلى العراق وكردستان
في عام 2003، ألغت الحكومة العراقية الجديدة كثيرا من عقود الطاقة الرئيسة التي وقعت مع موسكو أيام صدام حسين، لكن الشركات الروسية كانت تعمل على ترتيب عقود جديدة منذ ذلك الحين. ونتيجة لذلك دخل كل من شركة «لوك أويل» و«غازبروم نفط» سوق الطاقة في «إقليم كردستان» عام 2012، وكسبتا بعد ذلك عددا من العقود لتطوير حقول النفط فضلا عن مشاريع أخرى، ما دفع بارزاني إلى زيارة موسكو للمرة الأولى بعد ذلك بوقت قصير.وفي وقت لاحق، بدأت الشركات الأميركية مثل «إكسون موبيل» و»شيفرون» بتقليص مساهمتها في قطاع النفط والغاز في «إقليم كردستان» في عام ٢٠١٥ نظرا إلى المخاوف الأمنية من تنظيم «الدولة الإسلامية»، فضلا عن الصعوبات الجيولوجية والتعاقدية. ولملء هذا الفراغ، دعت «حكومة إقليم كردستان» المزيد من الشركات الروسية – التي تعد، بفضل تدخل الدولة المكثف، أقل رهنا بالمخاطر السياسية والاقتصادية من الشركات الغربية. ومن هذا المنطلق، وقعت «روسنفت» عقود نفط مع كل من الحكومة العراقية و«حكومة إقليم كردستان»، على الرغم من كونها تخضع للعقوبات الغربية منذ غزو روسيا لأوكرانيا.ومن منظور اقتصادي بحت، يبدو قرار موسكو غير منطقي، إلى أن نأخذ في الاعتبار أن بوتين ينظر إلى صفقات الطاقة كأداة للسياسة الخارجية. فمنذ فبراير ٢٠١٧، قدمت «روسنفت» قرضا لأكراد العراق يبلغ حوالي 3.5 مليارات دولار ووقعت عقودا لتطوير خمسة مجمعات لإنتاج النفط، كما استثمرت في البنية التحتية لتصدير النفط والغاز في «إقليم كردستان». علاوة على ذلك، تعمل حاليا شركة «غازبروم نفط» على تطوير ثلاثة مجمعات نفطية. ومن شأن مثل هذه الإمكانية الواسعة للوصول إلى الطاقة منح موسكو بعض النفوذ على سياسات «حكومة إقليم كردستان»، وربما أيضا على صعيد الشؤون الإقليمية الأوسع نطاقا.ومع تمحور موسكو، كما يبدو من بغداد إلى أربيل، تجدر الإشارة إلى أن علاقتها مع الأكراد تعود إلى حوالي مئتي عام. فقد أدركت روسيا أهمية الأكراد منذ عهد الامبراطورة كاثرين العظيمة وبدأت تتصرف كراعية لهم منذ ذلك الحين - بينما استغلتهم بشكل متهكم لتحقيق غاياتها الخاصة. ويتجسد هذا النمط مجددا على ما يبدو مع الرئيس بوتين.سياسة خطوط الأنابيب
تمهيدا للسيادة الكاملة، استخدم قادة «حكومة إقليم كردستان» قطاع النفط والغاز لتعزيز مسيرتهم نحو اقتصاد مستقل. ولكنهم تعرضوا لأزمة مالية حادة خلال هذه العملية، بعد أن تكدست الديون المستحقة من عدد كبير من شركات النفط والدائنين. وفي أغسطس 2017، تدخلت شركة «روسنفت» وساعدتهم على تسوية أحد الخلافات الرئيسة، وهي قضية تحكيم دولية مع الشركة الإماراتية/العراقية «دانة غاز» التي كلفت «حكومة إقليم كردستان» مليار دولار وكان من المفترض أن تكلفهم مليارات أخرى.علاوة على ذلك، تتمتع «روسنفت» حاليا بحصة الأسد في مجال تصدير النفط الخاص بـ«حكومة إقليم كردستان»، وقد وعدت ببناء خط أنابيب غاز إلى تركيا. وقد يسمح ذلك لموسكو بإقحام نفسها وإقامة علاقات في مجال الطاقة مع «حكومة إقليم كردستان» وأنقرة، مما يعزز مكانة روسيا الجيوستراتيجية في المنطقة الأوسع. ويتفوق الكرملين الآن على جهود تركيا الرامية لأن تصبح مركزا للطاقة، مما يعوق فعليا إمكاناتها كبديل للاحتكار الروسي لأسواق الطاقة الأوروبية.ويعارض المسؤولون العراقيون الحق القانوني لـ«حكومة إقليم كردستان» في تصدير النفط، ولكن خيارات التصدير الخاصة ببغداد لحقول النفط الشمالية الضخمة محدودة: عليها إما استخدام خط أنابيب «حكومة إقليم كردستان» أو تجديد خط كركوك الذي تعطل إثر عمليات التخريب التي قام بها تنظيم «الدولة الإسلامية». وبعدما أصبحت حصة «روسنفت» الآن ٦٠ في المئة في خط «حكومة إقليم كردستان»، قد تتمكن من مساعدة الأكراد على ردع بغداد عن الخيار الثاني، الأمر الذي يتطلب قدرا كبيرا من الوقت والمال. وبذلك، قد ينقذ بارزاني إرثه الرئيس، ألا وهو قطاع الطاقة الناشئ في «إقليم كردستان»، من التنازل الكامل للحكومة المركزية.وعبر التعامل مع موسكو، يبدو أن الأكراد يستقون الأفكار من القوى المجاورة. وتأتي «روسنفت» في الطليعة من حيث توسيع البصمة الروسية في المشهد الإقليمي الأوسع للطاقة، مع النظر إلى إيران والجزائر ومصر كشركاء محتملين. كما أن عقد الصفقات مع روسيا يساعد «حكومة إقليم كردستان» على تنويع علاقاتها الخارجية للتعويض عن المصلحة الضائعة في واشنطن وأنقرة. علاوة على ذلك، من المتوقع أن يتضاءل الوجود الكردي في الحكومة العراقية حالما يستقر الوضع في أعقاب انتخابات ١٢ مايو، كي تتمكن موسكو من مساعدة «حكومة إقليم كردستان» على استعادة بعض النفوذ في بغداد.مخاطر التمحور مع روسيا
طالما كانت الولايات المتحدة وتركيا راعيتين أساسيتين لـ«حكومة إقليم كردستان». فقد اعتمد الأكراد العراقيون على المساعدات العسكرية والمساعدات المالية الأميركية الممنوحة لقوات البيشمركة للحفاظ على الأمن، بينما اعتمد اقتصادهم على تركيا لمساعدتهم في تصدير النفط رغم اعتراضات بغداد. وعلى الرغم من أن روسيا أمنت لنفسها مقعدا على الطاولة، إلا أن فائدتها لأهداف «حكومة إقليم كردستان» لم يتم اختبارها بعد.لكن على أربيل أن تتوخى الحذر في اختيارها للشراكات على المدى الطويل. فلطالما استخدمت روسيا الأكراد لتحقيق مآربها الخاصة، وليس من أجل دعم فعلي لقضية استقلالهم. وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن موسكو سمحت لتركيا بمهاجمة القوات الكردية في سورية وطردها من عفرين. أما في العراق، فقد تستخدم شركات الطاقة الروسية عملياتها في «إقليم كردستان» كورقة ضغط مؤقتة لانتزاع شروط تعاقدية أفضل من بغداد. كما أن احتضان الشركات الروسية الخاضعة للعقوبات الدولية يتعارض مع تطلعات الناخبين الأكراد، الذين دعوا إلى الحكم الرشيد والإصلاح الاقتصادي. وقد لا يعتبر بعض المسؤولين في واشنطن أن التقارب مع «حكومة إقليم كردستان» أمر ملح حاليا مع انحسار القتال ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار قرار أربيل بتجاهل التحذيرات الأميركية حول الاستفتاء. ومع ذلك، على هؤلاء المسؤولين أن يدركوا أنه ما دام الدور المستقبلي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط غير واضح، فإن مزيدا من الجهات الفاعلة المحلية ستنظر إلى روسيا كالبديل الرئيس الذي يضمن بقاءها، مما قد يلحق ضررا بالغا بمصالح الولايات المتحدة على المدى الطويل.آنا بورشفسكايا وبلال وهاب - واشنطن إنستيتوت