إن من يعرف المكسيكية فريدا كالو (1907 - 1954) كفنانة تشكيلية، عليه ألا يغفل ذلك وهو يزور معرضها الذي يقيمه متحف ﭭيكتوريا وألبيرت، فهو معرض مُكرس لحياتها القصيرة الغنية بالمسرات والتراجيديا، عبر صورها الفوتوغرافية وأزياء لباسها الملونة ومخلفات ساقها الاصطناعية وأحذيتها. حين زرت المعرض قبل يومين لم أخلُ من صدمة المفاجأة، لأني لم أقرأ عنه قبل زيارته، رغم تساؤلي حول مسعى المتحف، المعني بالتراث الإنساني في حقل النحت والأزياء والديكور، لتقديم استعادة لفنان تشكيلي، الأمر الذي خُصَّت به متاحف الفن من أمثال: "ناشيونال ﮔاليري"، "ﭘورتريت ﮔاليري"، و"التيْت" بفرعيه.
المعرض خُص، إذن، بحياة الفنانة لا فنها، مع أن فنها ينعم بالظلال على امتداد المعرض. فهي منذ صباها المبكر تميل إلى التشكيل (هل بسبب شلل الأطفال التي كانت تعانيه؟)، ورغم أن دراستها بدأت بتوجه علمي، فإنها بعد حادث اصطدام مروري أقعدها عن الحركة، وهي في الثامنة عشرة، قادتها مرحلة الاستشفاء إلى الفن بصورة مُكرسة وجدية. لم توفق عاطفياً مع الفنان الشيوعي دييـﮔو ريـﭭيرا، رغم زاجهما، بعد أن انتسبت هي إلى الحزب الشيوعي عام 1927. مع أننا على علم بخيانات ريـﭭيرا، وعدم التقصير من جانبها (من مشاهير عشاقها الثوري الروسي تروتسكي). ولعل من كلماتها المؤثرة قولها "إن أكثر أمرين عانتهما في حياتها هما سنوات مرضها الطويلة، وسنوات علاقتها بريـﭭيرا".يكاد ينفرد عاملان في تحديد توجهها الفني: معاناة الألم الروحي والجسدي، والسعي الذي لا يكل إلى الكشف عن أسرار الذات. كلاهما قاداها إلى النزعة التي شاعت في فن وأدب أميركا اللاتينية، والتي تُسمى بـ"الواقعية السحرية". انتفعت في هذا التوجه من الموروث الشعبي المكسيكي، ومن النزعة السوريالية الأوروبية، حتى إن الفرنسي أندريه بريتون أقام لها معرضين في نيويورك وباريس. مع كل هذه الفاعلية ظلت فريدا تحت ظل ريـﭭيرا، حتى بعد وفاتها. في سبعينيات القرن الماضي شاءت الأقدار أن تُكتشف من جديد من قبل المعنيين بالفن والسياسة، وتُقدم إلى الجمهور لتأخذ نصيبها من الشهرة، حتى فاقت شهرة ريـﭭيرا بكثير.بعد وفاتها عام 1954 أمر ريـﭭيرا بالاحتفاظ بكل ممتلكاتها الشخصية في غرفة مغلقة. وبقيت على حالها حتى عام 2004، حين أُطلق سراحها للمعنيين بالفن في المكسيك: الكثير من الفوتوغراف والكثير من الألبسة الشخصية ومعدات الساق المبتورة. وما هذا المعرض إلا احتفاء بهذا الإرث، يتم أول مرة خارج بلدها المكسيك.ما قرأته من متابعات النقد الصحافي يرى أن المعرض تم على حساب الإرث الفني لفريدا، الذي نعرفه. لقد قدمها عبر الفوتوغراف والملابس والساق الاصطناعية. مع أن المعرض لم يُشر إلى إرثها الفني، لا في عنوانه (فريدا كول: صنع الذات)، ولا في التفاصيل، وإلا لقُدم في متاحف الفن المعروفة، كما أشرت. كما أن المعرض لم يسعَ إلى تقديم حياة فريدا، باعتبار فنها البديل والحقيقي. قد نشاهد معرضاً يقدم حياة بيكاسو العاطفية، يعتمد المذكرات والفوتوغراف دون لوحاته، من غير أن نجد تقصيراً في ذلك.الفوتوغراف الذي يكاد يقتصر على بورتريت لفريدا يكشف لنا عن جانب من فنها التشكيلي، الذي كان يقتصر هو الآخر على صورتها الشخصية. فالأخير كان يسعى إلى تحريف، وربما تشويه، ملامحها الجميلة التي يعرضها لنا الفوتوغراف. وكأنها بذلك تحاول أن تكشف عن هوية الأنا الداخلية التي تراها حقيقية، لا عن مظهرها الخارجي. ثم إن المخلفات الأكثر إثارة للألم والدهشة في آن نجدها بهذه الاستثارة الفنية التي تُلم بفريدا، وهي تتعامل مع أجهزة علاجها الطبية، كزوج الأحذية حمراء الجلد للساق الاصطناعية، أو قالبها الجص، أو مشد الخصر، وكأنها تُنكر أن تحول بينها وبين روح الفنان فيها، فترسم عليها باللون والخط هوى السوريالي، وهوى اليساري، وهو العاشق، من مشاهد حلمية، ورموز انتمائها الشيوعي في المنجل والمطرقة، وطفل آمالها الذي أجهضته، داخل دائرة متاخمة لمشد الخصر.المعرض ممتع ونافع في هذين الجانبين: الفن وسيرة الحياة، وليس مجرد "معرض آثار"، كما وصفه أحد النقاد.
توابل - ثقافات
فريدا كالو: استعادة حياة
24-06-2018