«الجمع بين رأيي الحكيمين»
![د. محمد بن عصّام السبيعي](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1527781193350968600/1527781229000/1280x960.jpg)
إذاً ما الذي يمكن أن يدفع الفارابي إلى ذلك البلاء في جمع ما لا يجتمع إلا قسرا، وهو عين ما حدث؟أتكون نزعة جدلية تسكن الأفكار الكبرى، الأديان التبشيرية كالفكر الإسلامي مثلاً، تتوسل تجاوز الفروق في سبيل استيعاب الآخر؟ ألم يوظف المعتزلة قبل مولد الفارابي بنحو قرنين آلة المنطق لتقديم الإسلام للغير؟ ثم ألم ينقلب هؤلاء بعد ذلك يؤولون أصول الدين بما يتوافق مع قواعد الآلة ذاتها؟ أولم يعاود القطب الآخر للفلسفة الإسلامية في النصف الآخر من العالم الإسلامي، أي ابن رشد، بعد الفارابي بقرنين من الزمان، الجمع بين الفلسفة والشريعة كما يجمع بين أختين رضيعتين، على حد وصفه؟ ثم ألم يشهد الفقه الإسلامي على مر تاريخه منذئذ، مرورا بمراحل اتصاله بالفكر الغربي في العصور الحديثة وحتى يومنا هذا، رحلة في التوفيق بين مؤثرات أجنبية وأركان دينية؟ وهل يعني التوفيق هنا سوى إبطال الفروق أو هضمها لاستيعاب ما يستوعب من عناصر غريبة.لا مراء إذاً في أن جمع الفارابي بين رأيي الحكيمين، وإن لم يُتفق معه في فلاح ما ذهب إليه، يعكس سجية طالما زودت الفكر الإسلامي بقوة استيعاب الآخر وتمثل ما يحمله من بضاعة فكرية. خطوة يقدم عليها المتكلمون والفلاسفة لجرأة استمدوها من نزوعهم نحو تمكين العقل من أن يعمل حرا، وعلى مضض يتبعهم الفقهاء والقيمون على العلم الشرعي لالتزامهم المحافظ ولحرصهم على استقرار دعائم الدين ودرء الفتن. لكن الأمر برمته يمثل في المحصلة مكمن مرونة هذا الدين وسر حيويته منذ نحو خمسة عشر قرنا ونيف، في رقعة من العالم لا تغيب عنها الشمس.