منذ نهاية الحرب العالمية الثانية كان يفترض أن تتبع السياسة الخارجية الأميركية أحد مسارين هما: إما أن تستمر في دور مدافع رئيس عن النظام الدولي الذي أوجدته بعد الحرب العالمية الثانية، وإما أن تتراجع عن التزاماتها في الخارج وتتخلى عن مسؤولياتها العالمية وتلتف إلى الداخل، وتبدأ مرحلة الانتقال نحو عالم ما بعد أميركا، وكان الأسلوب الثاني هو ما ظهر أن السياسة الخارجية الأميركية قد اختارته في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، واعتبر معظم المراقبين أن انتخاب دونالد ترامب كان خطوة أخرى نحو الانسحاب وتغيير مسار سياسة واشنطن.

ثم تبين وجود خيار ثالث يتمثل بوجود الولايات المتحدة مثل قوة عظمى مارقة ليست انعزالية ولا أممية، وليست منسحبة ولا في حالة هبوط بل دولة نشطة وقوية وتعمل، وفي الأشهر القليلة الماضية– وفيما يتعلق بالتجارة– أظهر الرئيس ترامب نظرته إزاء إيران وإنفاق حلف شمال الأطلسي وربما حتى كوريا الشمالية أن الرئيس الذي يرغب في التخلي عن القيود المعنوية والعقائدية والاستراتيجية التي كانت تحد من قدرة عمل الولايات المتحدة في الماضي يستطيع تحويل هذا العالم للخضوع لرغبته وإرادته وذلك لفترة من الزمن على الأقل.

Ad

ولم يعمل ترامب على إهمال النظام الليبرالي العالمي فقط، بل بدأ باستغلاله من أجل تحقيق مكاسب ضيقة، وكان أن دمر الثقة والإحساس بالهدف المشترك الذي ربط بينهما، والذي حال دون حدوث فوضى دولية طوال سبعة عقود من الزمن، وهذه النجاحات التي حققها ترامب ستعتبر نجاحات تنبع من رغبته في عمل الأشياء التي رفض الرؤساء السابقون القيام بها، وهي استخدام واستغلال التباين الكبير في القوة التي نشأت في نظام ما بعد الحرب وذلك على حساب حلفاء وشركاء الولايات المتحدة.

الصفقة الكبرى

في صلب ذلك النظام كانت هناك صفقة كبرى تهدف الى ضمان السلام العالمي الذي سعت الولايات المتحدة الى تحقيقه بعد أن دفعت الى حربين عالميتين، وأصبحت بالتالي المزود الرئيس للأمن في القارة الأوروبية وشرق آسيا. وفي أوروبا جعلت الضمانة الأميركية للأمن من الممكن تحقيق تكامل أوروبي كما وفرت حماية سياسية واقتصادية ونفسانية ضد عودة القارة الى الماضي المدمر، وفي شرق آسيا أنهت الضمانة الأميركية دورة النزاع الذي شمل اليابان والصين وجيرانهما في حرب شبه مستمرة منذ أواخر القرن التاسع عشر.

وكان لصفقة الأمن أبعادها الاقتصادية أيضاً، فقد كان في وسع الحلفاء إنفاق كمية أقل من المال على الدفاع وتخصيص مبالغ أكبر من أجل تقوية اقتصادهم وأنظمة الرعاية الاجتماعية في بلدانهم، وكان ذلك يتماشى أيضاً مع أهداف الولايات المتحدة التي أرادت أن يكون اقتصاد الحلفاء قوياً من أجل مواجهة التطرف في جناحي اليمين واليسار ومنع المنافسة الجيوسياسية وسباق التسلح الذي أفضى الى حروب الماضي.

ولن تصر الولايات المتحدة على كسب كل منافسة اقتصادية أو اتفاق تجاري، وكانت فكرة القوى الأخرى بأن لديها فرصة معقولة للنجاح على الصعيد الاقتصادي، وحتى لتجاوز الولايات المتحدة- كما فعلت ألمانيا واليابان ودول اخرى في أوقات مختلفة- كانت العنصر الذي جمع بين مقومات النظام العالمي.

وكانت هذه الصفقة القاعدة التي قام عليها النظام العالمي الليبرالي الذي استفادت منه كل الدول المشاركة، بما فيها الولايات المتحدة، ولكنه ترك حلفاء أميركا عرضة للخطر وهم عرضة حتى اليوم، لأنهم يعتمدون على ضمانات الأمن الأميركية وعلى قدرة الوصول الى الأسواق الواسعة في الولايات المتحدة ومؤسساتها المالية ورواد الأعمال المبدعين فيها.

موقف رؤساء الماضي

لم يرغب رؤساء أميركا في استخدام هذا النفوذ والتأثير، وكانوا يعتقدون أن للولايات المتحدة مصلحة في الحفاظ على النظام الليبرالي العالمي، وأن البديل هو العودة الى صدامات القوى العظمى التي وقعت في الماضي التي لا أمل لواشنطن في البقاء في منأى عنها، ومن أجل تفادي وجود عالم من الحروب والفوضى كانت الولايات المتحدة راغبة، الى حد ما، في القيام بدور الرابط بين أطراف المجتمع الدولي.

وقد اعتبر الأوروبيون وغيرهم أن أميركا أنانية وتواقة بشدة الى استخدام القوة من أجل تحقيق أهدافها بصورة أحادية، ولكن حتى الرئيس جورج دبليو بوش اهتم بتلك الأهداف لأن الشعب الأميركي تعلم من خلال تجربة مؤلمة أنه لا يملك ثمة خيار غير ذلك.

من جهة أخرى يوشك حلفاء الولايات المتحدة أن يكتشفوا ماذا تعني المواقف الأحادية لأن أميركا في عهد الرئيس ترامب ليست مهتمة، وهي لا تعترف بأي التزامات أخلاقية أو سياسية أو استراتيجية، كما أنها تشعر بحرية متابعة أهدافها من دون اعتبار لتأثير ذلك على الحلفاء وعلى العالم أيضاً، ولا تشعر واشنطن بأي مسؤولية إزاء أي شيء سوى نفسها.

هل هذا ما يريده الشعب الأميركي؟ ربما. وتدعو جهات كثيرة اليوم الى درجة أكبر من الواقعية ودرجة أقل من المثالية في السياسة الخارجية الأميركية، وتمثل سياسة ترامب واقعية مجردة خالية من المثاليات والعواطف مع اتباع «مصلحة وطنية» ضيقة تحدد فقط من خلال الدولار والدفاع ضد هجوم خارجي، ويتمثل عالم ترامب في نضال ضد الكل ولا توجد علاقة تقوم على القيم المشتركة، بل مجرد عمليات تقررها القوة، إنه العالم الذي دفعنا قبل قرن من الزمن الى حربين عالميتين.

وسيحسن خصوم أميركا عملاً في هذا العالم، لأن أميركا ترامب لا تريد الحرب، وستستوعب القوى التي تستطيع إلحاق الضرر بها، وستدفع الى تلك القوى من أجل احترام المطالب وتمنحها المدى اللازم لتحقيق مصالحها، وفي غضون ذلك فإن الأطراف التي تعتمد على الولايات المتحدة ستعامل بازدراء وعلى شكل بيادق، وفي بعض الأوقات ستعامل تلك الأطراف على شكل رهائن من أجل تحقيق مكاسب أميركية، وكانت الولايات المتحدة والنظام الليبرالي بعد الحرب قد أسهما في حمايتهم وساعداهم على الازدهار، ولكنهما تركاهم عرضة لتصرف أي رئيس أميركي يرغب في تقديمهم فداء لإرضاء المعتدين، وتلك واقعية أيضاً.

وكانت الولايات المتحدة قد رفضت هذا الأسلوب بعد سنة 1945 واختارت بدلاً من ذلك اتخاذ نظرة متنورة إزاء مصالحها، كما دافعت عن نظام عالمي يعتمد على الفكرة القائلة إن الشعب الأميركي يمكن أن يصبح آمناً اذا كانت الديمقراطية والقيم الليبرالية آمنة فقط، واعتبرت مصالحها ومثلها مرتبطة ببعضها وأن تحالفاتها الديمقراطية دائمة. ولكن ذلك كان خياراً، كما كان في وسع الولايات المتحدة مع كل ما تملكه من قوة عظمى المضي في اتجاه مختلف. ويبدو الآن أنها فعلت ذلك.