نقطة: هل كان الأمر يستحق؟!
بعد انقضاء سنوات الفورة والاندفاع والسذاجة من عمرك، وعندما تصل إلى مرحلة تتخلى معها عن المكابرة والعناد، وعادة تحميل الآخرين مسؤولية قراراتك وخسائرك، وتعرف أنك لست بهذه الأهمية التي تظنها للكون، تبدأ بفتح دفاترك، وإعادة حساباتك لعلك تنقذ ما تبقى من روحك وسنينك، فتصارح نفسك، وتنتقد ذاتك وخياراتك في الزمن الفائت، وتعيد التفكير والتحليل لما مررت به أنت ومعك جيل كامل من تجارب وأحداث، وطريقة التعاطي والتفاعل معها، محاولاً فهم ما جرى، وكيف وصلت ومن معك إلى هنا، فربما تستطيع استخلاص النتائج ومعرفة الأسباب، كي تقطع حبال الاستمرار بذات الساقية، وتكرار السقوط بنفس المستنقعات جيلاً بعد آخر.خرجنا من حكم المشيخة الكاملة، ودخلنا إلى الديمقراطية العرجاء في زمن يضج بالتحولات والتغيرات من حولنا، وقد يكون لقربنا النسبي من العراق وبلاد الشام دور لما آلت إليه الحالة، فقد استوردنا الدستور ومعه كل شيء آخر، حتى الأفكار والمعارك والخنادق، التي لا حاجة لنا فيها ولا جمل، وبدلاً من أن نوجه أنظارنا إلى البعيد المتقدم نظرنا إلى القريب المأزوم، وابتلعنا الطُّعم، ودخلنا في مراهقات سياسية ومؤامرات موهومة استنزفت سنوات النهوض، ولم يستفد منها سوى أطراف لا يعنيها إلا نفسها، ولو احترقت أنت ومن معك، وتقمصنا المزاج الثوري السائد من حولنا، وسعينا وراء تقدير ومديح من لا يرون فينا إلا بدواً جهلاء، أو بنوكاً تصرف عليهم في أحسن الأحوال، وفرّطنا في أجمل سنواتنا ندور حول القضايا الفارغة، ونردد المصطلحات اللغوية والشعاراتية الكبرى، ونتجادل حول جنس الملائكة، جيلاً بعد جيل، وتركنا أرض الواقع والتنمية والعمل والحياة في وقت كانت أوطاننا في أشد الحاجة إلى ذلك، ولم يبق معنا بعد كل هذا لتتوارثه الأجيال من كل ما مررنا به أو مر بنا إلا تأثرنا بالمزاج المصري المتسم بالمظلومية، وحالة التشكي الدائمة، وضرورة وجود هناك "هُم اللي بيسرأوا"، ولا نفعل لهم شيئاً إلا تكرار الشكوى، والظهور بمظهر البطل المتمرد المقموع، ومن الشوام وعرب الشمال تشربنا الألفاظ والمصطلحات الكبيرة، وحب التنظير والتقعير والنضال على الورق والمقاهي في زمن كنا ومازلنا بحاجة فيه إلى أمور كثيرة أهم وأكثر واقعية من ذلك.
تراجع شريط السنوات، وتتهرب من الأجوبة، لكن يصعب عليك الهروب من الأسئلة.هل كنا بحاجة مثلاً إلى استيراد أفكار اليسار العربي وخلافاته وأجنحته؟ أو هل كانوا هم فعلاً بحاجة إلى وقفة أهل شرق والمرقاب معهم؟! هل استفدنا شيئاً من حكمة الحكيم جورج حبش، وثورية نايف حواتمة، وقومية القوميين وبعثية البعثيين؟! هل كنا بحاجة إلى استقبال المدرسين وشيوخ الدين الهاربين من بلدانهم لنتركهم ينشرون أفكارهم بيننا؟!... ماذا استفدنا من فكر حسن البنا وسيد قطب غير مراكز تجنيد المراهقين المنتشرة في بلادنا؟! هل تعرفون أحداً من أسرة محايدة اقتنع بفكر "الإخوان" بعد أن بلغ الثلاثين؟ وماذا استفاد شبابنا من الإيمان بوهم سيطرة الجماعة على العالم لتمارس أستاذيتها عليه؟! هل استفدنا شيئاً من استيراد الإسلام الحزبي بكل مذاهبه وفرقه واستبقائه بيننا لسنوات سوى تكرار مواسم الفتنة، التي يصعد على أكتافها المنتفعون من كل الجهات؟! لماذا لم نوجه بوصلتنا نحو الغرب المتقدم أو الشرق المتحفز بدلاً من الدخول في أتون أحزاب وبشر لم ينفعوا أنفسهم وأوطانهم أصلاً لينفعونا؟! من سيدفع ثمن هذا العمر الضائع؟! هل استفدنا من كل ما جرى؟! وهل من الطبيعي أننا مازلنا نفكر ونتكلم اليوم بلغة ما قبل نصف قرن؟! وكيف سنقارب قضايا الحاضر والمستقبل بذات النمط من التفكير؟! هل مازال الفخ منصوباً؟! ومن المستفيد من بقائه كذلك؟!هذه الأسئلة مازالت مفتوحة ولا أدّعي معرفتي بالأجوبة... هو مجرد حديث النفس التي تأثرت ومازالت بما كان حولها، فقط أتساءل وأسأل وأفكر وأتردد وأقدم وأؤخر... هل كنا فعلاً بحاجة إلى كل ذلك؟!