ما لا يقال عن «30 يونيو»
إن استعادة الدولة، وصون الهوية الوطنية، ودحر خطر الإرهاب، وتحقيق الاستقرار، وإنفاذ الأمن، كلها أهداف تستحق العمل من أجلها، لكن الإشكال يكمن في أن معظمها تحقق بالفعل، وبنجاح ملحوظ.
حلت أمس الذكرى الخامسة لاندلاع انتفاضة "30 يونيو" في مصر، ورغم أن الدولة أقرت احتفالاً رسمياً بالمناسبة، فإن جدلاً وانقساماً يعتريان مفهوم الذكرى، ويثيران اختلافاً في شأنها.ولأن مصر دولة ومجتمعا ينزعان نحو الاستقرار، ويتحركان بتأن يليق بحمل تاريخي يعود إلى آلاف السنين، وكثافة سكانية تخطت المئة مليون، وباعتبارات جيواستراتيجية ثقيلة ومؤثرة، فإن التغيرات السياسية الحادة والحاسمة نادرة في تاريخها.ومع ذلك فقد حدثت التغيرات الحاسمة المتلاحقة في فترة زمنية صغيرة لم تتعد السنوات الثلاث؛ إذ اندلعت "ثورة 25 يناير" في عام 2011، كزلزال هائل، أتى ضمن سلسلة "الدومينو العربي"، التي عرّفها البعض بـ"الربيع"، قبل أن تتحول إلى "فوضى" و"شتاء أصولي"، قادا البلاد إلى التغير الجوهري التالي، الذي وقع بعد سنتين في "30 يونيو" 2013.
الآن وقد مرت خمس سنوات على اندلاع الانتفاضة، في يونيو 2013، وما تلاها من إطاحة حكم "الإخوان"، سيمكن مراجعة المسار، واستخلاص الدروس والعبر.ينقسم المصريون إزاء الانتفاضتين انقساماً واضحاً؛ فثمة فصيل يناصر "25 يناير"، ويعتقد أنها "ثورة" كاملة الاعتبار، أدت إلى إزاحة حكم استبدادي فاسد، وفتحت المجال العام أمام تنافس سياسي، أوصل "الإخوان" إلى السلطة بانتخابات "ديمقراطية"، قبل أن يتم "الانقلاب" عليها، لإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه.وضمن هذا الفصيل يقبع "الإخوان"، وبعض تيارات "الإسلام السياسي"، وفصائل إرهابية، وثوريون راديكاليون، وإصلاحيون معتدلون، ووطنيون، ومعادون تقليديون لـ"ثورة يوليو" 1952، وما تلاها من تحولات وتفاعلات سياسية ضخمة، رسمت ملامح البلاد على مدى نحو سبعة عقود.هؤلاء الذين يؤيدون "يناير"، ويناصبون "يونيو" العداء، يقابلهم فصيل أوسع يعتقد أن الأولى لم تكن سوى "مؤامرة تخريبية"، دبرها تحالف شرير ضم دولاً خارج الإقليم وداخله، وتنظيم "الإخوان"، وقوى إرهابية أخرى، بهدف تدمير البلاد، وسرقة هويتها، وانضوائها ضمن سلطة خارجية، تريد تركيعها وإذلالها.وضمن هذا الانقسام تقف السلطة في مصر على الحياد نظرياً، وتتحدث عن الانتفاضتين بوصفهما "ثورتين" علنياً، وتنحاز إلى "30 يونيو" عملياً، وتقتفي أثر مبارك تقريباً كأمر واقع.يصعب على أي سلطة تحكم مصر أن تتنصل من استحقاقات "يناير"، بداعي نفاذ إرادة "يونيو"؛ لأن الثانية لم تكن لتوجد من دون الأولى.لكن ما الذي تعنيه "يناير"؟ وماذا يجب أن يبقى منها؟في التحليل الأخير، وبعد استبعاد العامل "الأصولي" والأغراض الخارجية المشبوهة، التي اعتلت مسار "يناير"، وحرفته عن مقصده، سيبقى منها التوجيه الاستراتيجي العمومي، الذي لخصته الجماهير في هتاف مبدع في بلاغته: "عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية".لقد ثارت الجماهير، ونزل عشرات الملايين إلى الشوارع في "يونيو"، وهي حقيقة لا تقبل التشكيك، مطالبين بإزاحة حكم "الإخوان" الذي نقض الركائز الوطنية، وعبث بهوية الدولة، وكاد يأخذها إلى منحدر خطير، لا خلاص منه. وبين هذه الجماهير، كان مناصرو "يناير" في القلب؛ وكانت الإرادة متفقة آنذاك على استرداد الدولة، والبناء على "عيش، وحرية، وعدالة اجتماعية، وكرامة إنسانية"، إضافة إلى استعادة الأمن، والاستقرار، ومحاربة الفساد، وتثبيت المؤسسات، والمضي قدماً في برنامج وطني يهدف إلى تحقيق متطلبات "يناير"، في ظل دولة مواطنة، تحظى بالتماسك الاجتماعي، والوحدة الوطنية، والفخر بالهوية. والخلاصة أن "يناير" كانت انتفاضة، في طور "مشروع ثورة"، هدفت إلى تحقيق مطالب مشروعة وعادلة، لنيل مكانة مستحقة لمصر والمصريين، قبل أن تعتليها جماعات وقوى ودول ذات أهداف شريرة ومشبوهة، فتحرفها عن اتجاهها، وهو ما أدى إلى اندلاع "يونيو"، التي وعدت، ويتوجب عليها الوفاء، باحترام "يناير"، والعمل وفق توجيهها الاستراتيجي، بموازاة مواجهة التهديدات التي أفرزتها بسبب الافتئات عليها وخطف إرادتها.تحولت "30 يونيو" مساراً سياسياً استراتيجياً مكتمل الأركان، حين قادت إلى تعديلات دستورية صدرت في عام 2014، وانتخابات رئاسية وبرلمانية، مرت بسلام، وتمخضت عن فوز الرئيس السيسي بولاية رئاسية أولى (2014- 2018)، وبرلمان مؤيد ومتعاون معه، قبل أن ينجح الرئيس في الفوز بولاية ثانية بدأت هذا العام، وتستمر حتى عام 2022.ما الذي أنجزته "يونيو"؟استعادت "يونيو" الدولة المصرية، ودعمت ركائزها، ووطدت لمؤسساتها، وحققت قدراً من الأمن والاستقرار ملحوظين، وطورت سياسة خارجية ناجحة قياساً بكتلة البلاد الحيوية ومقدراتها الراهنة، وأنجزت طفرة عمرانية ملموسة، وحققت نجاحاً دفترياً في ضبط المؤشرات الاقتصادية الكلية، واستردت هوية الدولة، وهزمت الإرهاب استراتيجياً، بحيث لم يعد قادراً على رهن إرادتها أو تعويق مسيرتها.تلك حصيلة جيدة لعمل ذي "طابع ثوري"، قاد البلاد إلى مسار يتسم بقدر من الاستقرار الملحوظ، ومكّن المؤسسات من العمل المنظم المدروس، لكن مع ذلك تبقى الهواجس والانتقادات مشروعة.لم يكن خروج الجماهير في "يناير" عملاً مسرحياً أو "مؤامرة" أو فوضى عشوائية، لكنه كان تعبيراً عن مطالب حقيقية؛ وهي مطالب ما زالت مطروحة، وسيتم طرحها عاجلاً أو آجلاً، وبأساليب شتى.على "يونيو" أن تستعيد بيان مهمة "يناير"، وأن تضعه في لائحة الأفعال المطلوب إنجازها، وبتوقيتات مدروسة، وبإرادة معلنة.وبموازاة ذلك، يجب على "يونيو" أن تراجع مسارها، وأن تسأل: ماذا عن العيش؟ والحرية؟ والعدالة الاجتماعية؟ والكرامة الإنسانية؟إن استعادة الدولة، وصون الهوية الوطنية، ودحر خطر الإرهاب، وتحقيق الاستقرار، وإنفاذ الأمن، كلها أهداف تستحق العمل من أجلها، لكن الإشكال يكمن في أن معظمها تحقق بالفعل، وبنجاح ملحوظ.فما الذي يجب على الأطراف المعنية فعله لتعزيز مسار "يونيو"؟سيكون استبدال أهداف تحقق معظمها بالفعل بأخرى تستوجب التفعيل عملاً غير مدروس، لأن الجمهور سيتذكر، وقد يتحرك، وفي حركته التالية احتمالات سوداوية.وبالتالي يجب على الجمهور أن يمنح دولته المزيد من الصبر، وقدراً أكبر من تحمل المكاره، ومعظمها يقع في الجانب الاقتصادي، ويجب على الدولة الوفاء باستحقاقات "يناير" و"يونيو"، بما يعنيه ذلك من ضرورة فتح المجال العام للتنافس السياسي وتلاقح الأفكار، وضمان التنوع والتعدد، وتوسيع هامش الحريات، ورأفة حقيقية وعناية بالطبقات الأقل دخلاً.* كاتب مصري
الخلاصة أن «يناير» كانت انتفاضة في طور «مشروع ثورة» هدفت إلى تحقيق مطالب مشروعة وعادلة