كل صوت وموقف انتفض في وجه آخر قصص الهيئة العامة للزراعة وما صاحبها من رائحة الفساد والمحسوبية يستحق الإشادة والتقدير، مهما كان موقع المواطن وبغض النظر عن طريقة تعبيره عن غضبه واستهجانه لاستمرار الفضائح في البلد، ودونما أن تهتز شعرة حياء في أوساط القرار السياسي.

لكن الكوميديا السياسية تفرض نفسها مع الأسف، حيث تتحول قضية مزرعة منحت دون وجه حق إلى قضية رأي عام، وكأننا "جبنا العيد"، أو أن الحالة المثالية عندنا ناصعة البياض في القيم والشفافية والنزاهة، ولذا رأى الجميع بوضوح هذه البقعة السوداء في هيئة الزراعة، ويكون رحيل الحكومة برمتها وإحالة الفاسدين من المسؤولين والمتنفعين إلى المحاكمة هو أقل ما يمكن فعله.

Ad

ومع وقوفنا بحزم أمام آخر مهازل هيئة الزراعة وضرورة تفعيل أدوات الرقابة والتحقيق ومن ثم الجدية في المحاسبة، إلا أن قضية مزرعة مسروقة لا تساوي جناح بعوضة في كوم الشبهات المالية التي تفجرت معلوماتها مؤخراً، ولكنها تبخرت بسبب قلة التركيز والاهتمام الإعلامي، أو لعدم وجود نجم بارز يثيرها كما صنع الشيخ محمد اليوسف في الهيئة، أو أن هذه الجزئية الصغيرة غطت عيوننا وسلبت عقولنا واهتمامنا عن قضايا في غاية الخطورة، وفي مقدمتها القرض الحكومي الخيالي الذي تبلغ قيمته 25 مليار دينار والذي لم يغلق إلى الآن، ومنها الخسائر التي تقدر بالمليارات أيضاً في الهيئة العامة للاستثمار مما يهدد أصولنا ومواردنا المالية وصندوقنا السيادي في الخارج، ومنها استمرار قضية العُهد في الميزانية العامة للدولة التي أثيرت في العام الماضي وأحدثت صدى مهماً، ولكن بسبب اللامبالاة وتهاون المجلس عن أداء دوره الرقابي قفزت قيمة هذه العُهد إلى أكثر من 7 مليارات دينار، ولا يتوافر لها أي مستندات للصرف، لكن مجلسنا الموقر اكتفى بإثارة زوبعة فقاعية حول الحساب الختامي، ومع ذلك أقر الميزانية العامة التي كان بالإمكان غلّ يد الحكومة فيها حتى ترتدع وتُرغم على اتباع سياسة أكثر رشداً ومسؤولية.

غالبية الناس صادقون ومخلصون في انتصارهم لقضية هيئة الزراعة، والفزعة التي رأيناها تبشر بالخير وتوحي بوجود ضمير حي تجده في الميدان عندما يستدعى له، ولكن أجد أن الناس قد تم جرهم لا شعورياً إلى جزئية بسيطة لإلهائهم عن أمهات القضايا، أو لابتياعهم الوقت، وربما يصطدمون كالعادة بأن يقحم هذا الملف في دهاليز اللف والدوران دون حل حاسم، وعندها تتولد قناعة بأنه إذا لم نستطع استرجاع مزرعة فكيف يمكن حماية ثروتنا الوطنية من الجرائم الكبرى والنهب المنظم؟

قضية هيئة الزراعة الجديدة باختصار تشبه حالة من يجلس على مائدة دسمة ليلتهم ما لذّ وطاب من الأكلات الشهية ومن أرقى الطهاة، ثم يختم وجبته بعلبة "سفن آب" ليخرج هواء الأكل بنهم، فيا جماعة الخير مزرعة الهيئة المشبوهة لا تتعدى كونها شربة "سفن آب" تشمئز من "تريوعتها" ولكنها تهضم الأكلة!