الانقسام عبر المحيط الأطلسي

نشر في 04-07-2018
آخر تحديث 04-07-2018 | 00:09
من المؤكد أن هذه ليست المرة الأولى التي تتوتر فيها العلاقات عبر الأطلسي، ففي أوائل الستينيات من القرن الماضي رفض الرئيس الفرنسي شارل ديغول دعامة أساسية في تحالف «الناتو» من خلال الحد التدريجي من المشاركة الفرنسية السياسية والعسكرية.
 بروجيكت سنديكيت تعد الحديقة الوطنية في ثينغفيلير، التي تقع على بعد 30 ميلاً شرق ريكيافيك، من أهم المواقع التاريخية في أيسلندا، إنه المكان الذي أسس فيه الفايكنغ أول برلمان ديمقراطي في عام 930، حيث أعلنت جمهورية أيسلندا استقلالها عن الدنمارك في عام 1944، وهي تقع على كسر جيولوجي ضخم، حيث تشكل صفيحة هريبافليكي الصغيرة صدعا ضيقا بين الصفائح التكتونية لأميركا الشمالية وأوراسيا، وفي الوضع الجيوسياسي الحالي يمكن أن يشكل هذا رمزية مثالية.

لا شك أن هناك فجوة بين الولايات المتحدة وأوروبا، يمكن لصفيحة هريبافليكي تمثيل الصين، التي استعادت موقعها في الطبقة العليا من القوى العالمية، وهو وضع لا تملك الولايات المتحدة وأوروبا إجابة مشتركة بشأنه، أو ربما تعكس صفيحة هريبافليكي الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي استنزفت استفزازاته المتكررة- بما في ذلك ضد الصين- الصداقة عبر الأطلسية، وقوضت دور أميركا في العالم.

تميزت الحرب الباردة، من عام 1945 إلى عام 1989، بنظام عالمي ثنائي القطب اعتمد فيه الاستقرار على توازن التهديد النووي، وبعد عام 1989 ظهر نظام أكثر تفاؤلا تحت قيادة الولايات المتحدة المهيمنة، على الرغم من أنها كانت لا تزال غير مستقرة من قبل قوى مثل الإرهاب الدولي، لكننا الآن دخلنا مرحلة جديدة تنتهك فيها الولايات المتحدة معايير أكثر فأكثر وتصبح أكثر نفوراً من بقية العالم.

وفي الأسابيع القليلة الماضية، لم يفرض ترامب رسوما جمركية هائلة على الصين وحلفاء أميركا الآسيويين والأوروبيين فحسب، بل عطل أيضا القمة السنوية لمجموعة الدول السبع، واتهم أقرب حلفاء أميركا بالقيام بممارسات تجارية غير عادلة؛ ثم التقى كيم جونغ أون في سنغافورة، حيث أفسح سلوكه المهين تجاه شركاء أميركا الأوروبيين والكنديين، المجال لمدح دكتاتور كوريا الشمالية القاسي، ثم قام باتباع سياسة ساخرة بفصل الأطفال المهاجرين عن عائلاتهم عند الحدود الجنوبية للولايات المتحدة، والتي أجبر على إلغائها بعد التعرض لضغط سياسي.

بشكل عام، انفصل ترامب عن حلفائه سياسياً وعاطفياً، من خلال مهاجمة القيم الأساسية للديمقراطية، وبهذا المعنى نرى في الوقت الحالي نقيضا دقيقا لأزمة عام 1989، عندما انهارت الكتلة السوفياتية وبدت الديمقراطية منتصرة. واليوم، ليس من الواضح ما الذي ترمز إليه الولايات المتحدة في واقع الأمر، ويهدد عدم اليقين هذا التحالف عبر الأطلسي بأكمله.

ومن المؤكد أن هذه ليست المرة الأولى التي تتوتر فيها العلاقات عبر الأطلسي، ففي أوائل الستينيات من القرن الماضي، رفض الرئيس الفرنسي شارل ديغول دعامة أساسية في هذا التحالف (الناتو) من خلال الحد التدريجي من المشاركة الفرنسية السياسية والعسكرية، في حين رأى الرئيس الأميركي جون ف. كينيدي حلف الناتو مظلة مشتركة تدعمها دعامتان- الولايات المتحدة وأوروبا- التي اعتبرها ديغول أداة للهيمنة الأميركية، ومع ذلك فإن انسحاب فرنسا من منظمة حلف شمال الأطلسي أدى إلى عزل البلد أكثر من إضعاف التحالف عبر الأطلسي.

وقد تعرضت هذه العلاقات للخطر مرة أخرى في عام 2003، عندما رفضت فرنسا وألمانيا، وبلدان أخرى، الانضمام إلى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في غزوهما (المتهور) للعراق، لكن بقاء التحالف عبر الأطلسي لم يكن أبدا موضع شك.

الفرق اليوم هو أن الولايات المتحدة تعارض التحالف، بل النموذج الديمقراطي الليبرالي الغربي بأكمله. يمكن أن يضل خروف عن القطيع، لكن إذا غادر الراعي فإن القطيع بأكمله يكون معرضا للخطر، ومع ذلك، بما أن سياسة "أميركا أولاً" تصبح "أميركا وحدها"، فهذا بالضبط ما يحدث اليوم.

لكن مخاطر ترامب ذهبت إلى أبعد من ذلك، فقد وصلت قوة أميركا، مقارنة بالبلدان الأخرى، إلى أدنى مستوياتها في فترة ما بعد الحرب، في عالم يتجه نحو نظام متعدد الأقطاب، لن تستطيع الولايات المتحدة تحمل الاستغناء عن حلفائها.

ومن المؤكد أن حكومة ترامب ترى الأمور بشكل مختلف، فلا يزال الرئيس وحلفاؤه مقتنعين بأن القوة الصارمة هي كل ما يهم، ومن الناحية العسكرية تبقى الولايات المتحدة هي الأفضل، لكن بقاء هذه الهيمنة ليس مضمونا، خصوصا مع وجود الاستثمارات العسكرية الصينية الضخمة، والأهم من ذلك أن القوة الصلبة وحدها لا تكفي للحفاظ على التحالفات، ناهيك عن ممارسة القيادة العالمية.

ومن غير المحتمل أن يدرك ترامب ذلك ويغير مساره، ولكن حتى بعد مغادرته البيت الأبيض، فإن العودة إلى "الحالة الطبيعية" ليست مضمونة بأي حال من الأحوال، حتى لو لم يمثل ترامب المجتمع الأميركي بأكمله، فلا ينبغي لنا أن نخدع أنفسنا: فانتصاره لم يكن مصادفة، إذ كانت هناك- ولا تزال- رغبة في الأحادية والانعزالية بين الناخبين الأميركيين، ولن تختفي هذه النزعات من السياسة الأميركية، حتى بعد رحيل ترامب.

لذلك، لا يمكن لحلفاء أميركا التقليديين ببساطة انتظار رحيل ترامب، بدلا من ذلك، يجب عليهم التكيف مع الواقع الحالي، ففي الماضي كان الأوروبيون في كثير من الأحيان يقللون من قيمة الجغرافيا، التي كانت ستفرض علاقة أوثق مع روسيا، وذلك لمصلحة جغرافية القيم، التي تبرر التوجه عبر الأطلسي.

إذا كانت الحكومة الأميركية تخون هذه القيم- لدرجة فصل الأطفال عن والديهم واحتجازهم في أقفاص- فإنه لم يعد من الممكن قبولها، وإن الطريق الوحيد للتقدم يكمن في تحدي الولايات المتحدة دفاعا عن قيمنا ومصالحنا.

قد يكون ترامب جيّدا في تعزيز قاعدته الانتخابية في الداخل أو التحالف مع "أصدقائه" الأيديولوجيين في الخارج. ولكن بدون دعم حلفائه الحقيقيين، فإن تأثير أميركا في جميع أنحاء العالم سيستمر في التدهور، ومن منظور جيوسياسي، يمكن لهذا النهج أن يؤدي إلى نتيجة واحدة فقط: "جعل الصين أعظم وبوتيرة أسرع".

* دومينيك مويزي

* مستشار مميز في معهد مونتين في باريس.

«بروجيكت سنديكيت، 2018» بالاتفاق مع «الجريدة»

ترامب بدون دعم حلفائه الحقيقيين يجعل تأثير أميركا في جميع أنحاء العالم مستمراً في التدهور
back to top