هل يريد الغرب ما تريده التكنولوجيا؟
تتطلب التكنولوجيا مجتمعا يتصل بالعالم من خلال طريقي التجارة والانفتاح على المواهب، كي يمكن الاستفادة من مكاسب أسلوب التكامل القائم على نظام الوحدات، كما تتطلب أيضا مجتمعا قادرا على تنمية إحساس مشترك بالهدف، يكون عميقا وقويا بدرجة كافية لتوجيه الحكومة نحو توفير الأموال العمومية التي تتطلبها التقنيات الجديدة.
لا يعتبر الغرب بوضعه في أيامنا هذه، من أبعاد كثيرة، في أحسن حالاته، فهناك كثيرون يتحدون ويعارضون قيم الديمقراطية الليبرالية (حقوق الأفراد وحكم الأغلبية)، بل حتى قيم عصر التنوير (العقل والعلم والحقيقة)، وتستخدم الأحزاب الشعبوية نجاحها الكبير في الانتخابات لنشر هذه المشاعر والترويج لها، مستغلة في ذلك الضائقة الاقتصادية، ومظاهر عدم المساواة الآخذة في الاتساع، والهجرة المتزايدة.وغالبا ما يُلقى باللائمة على التكنولوجيا في أنها سبب الأمراض الاجتماعية التي شكلت الأساس لهذا المد الشعبوي، لكن ماذا عن السهم السببي السابق زمننا الذي يجري في الاتجاه المعاكس، أي من المجتمع باتجاه التكنولوجيا؟ ففي عالم يبشر فيه التقدم التكنولوجي بفوائد كبيرة، قد يتوقف تحديد وتمييز الاقتصادات المهيأة للنجاح من الاقتصادات المتجهة إلى مصير الإمبراطوريات الإسبانية، أو البرتغالية، أو العثمانية على توفير "ما تريده التكنولوجيا"، وينبغي أن يكون هذا الأمر مقلقا للغرب في هذا العصر أكثر من الصين.ويتطلب التأكد مما تريده التكنولوجيا فهم ماهيتها وكيفية نموها، وللتكنولوجيا في الواقع ثلاثة أشكال من المعرفة: التكنولوجيا المجسدة ممثلة في الأدوات والمواد، والمعرفة المدونة ممثلة في الوصفات والبروتوكولات والكتيبات الإرشادية، والمعرفة الضمنية أو المعرفة الفنية، ومكانها العقول، فقد نستطيع تملك أدوات وأجهزة أكثر، أو الحصول على كتب وكتيبات إرشادية أكثر، أو الوصول إلى وثائق أكثر تكون تحت تصرفنا على شبكة الإنترنت، لكننا نفتقد القدرة على ملء عقولنا بالمزيد من الخبرات الفنية على المستوى الفردي. ويتطلب نمو التكنولوجيا ترسيخ وطباعة أجزاء مختلفة من المعرفة الفنية في عقول مختلفة، إذ تصبح المجتمعات أكثر معرفة على أساس ما لديها من معارف مختلفة ومتنوعة، لا على أساس زيادة معارف أفرادها عن غيرهم فقط.
لكن بعد تخزين أجزاء مختلفة من المعرفة الفنية في عقول مختلفة، لابد من جمع هذه العقول المتفاوتة مرة أخرى كي يمكن استخدام هذه المعرفة، فلا عجب حينئذ أن نجد الأشخاص الموسوعيين ورجال النهضة أقل عددا اليوم، في حين يتزايد سريعا عدد مؤلفي الأبحاث العلمية أو الساعين للحصول على براءات اختراع.ويعد التكامل المرن القائم على نظام الوحدات إحدى الحيل التي تستخدمها التكنولوجيا كي تنمو، بمعنى أنه إذا أمكن تقسيم مكونات منتج معين بطريقة تقوم على الاعتماد على مهارة فرق مختلفة في وحدات مختلفة، مع التعويل على مهارة قلة متخصصة في تجميع هذه الوحدات، فقد لا يتطلب الأمر من كل فريق بعينه معرفة المزيد، طالما أنه بوسع المجموع فعل ذلك.انظروا إلى المثال التالي: تعتبر تشيلي أكبر منتج لعنصر الليثيوم في العالم، في حين تعد شركة باناسونيك اليابانية أكبر مُصنع لبطاريات الليثيوم أيون، لكن شركة بايك الصينية هي أكبر مُصنع للسيارات الكهربائية، ورغم الإعجاب الذي تحظى به شركة تِسلا الأميركية، فمن المتوقع أن يصل عدد السيارات الكهربائية في أوروبا والصين بحلول عام 2025 إلى عشرة أضعاف مثيله في الولايات المتحدة، التي تأتي أيضا في مرتبة متأخرة للغاية بالنسبة إلى عدد محطات الشحن اللازمة لدعم السيارات الكهربائية.يوضح هذا المثال نقطتين، أولاهما أن كل وحدة في سلسلة القيمة تستفيد من الاتصال بالوحدات الأخرى في العالم، وتخلق إمكانية التكامل القائم على نظام الوحدات منطقا يختلف شيئا ما عن المفهوم البسيط لوفورات الحجم، حيث تستفيد السيارات الكهربائية من الابتكارات في التعدين وتصنيع البطاريات أينما حدثت، في حين سيحتاج من ينجز هذه الابتكارات للاتصال بالأماكن التي تحتاجها وتستخدمها.كذلك تتطلب صناعة طائرة ضخمة (جمبو) ملايين الأجزاء حرفيا، ويمكن أن تكون للابتكارات في أي مكون تأثيرات مهمة على تصميم الطائرة وكفاءتها بشكل عام، فالطباعة ثلاثية الأبعاد مثلا يمكن أن تقلل بشكل جذري عدد الأجزاء التي تحتاجها المحركات التوربينية، مما يقلل وزنها بدرجة كبيرة (وبالتالي استهلاكها من الوقود). وللاستفادة من تلك الاحتمالات، ينبغي أن تكون الشركات المبتكرة على اتصال بمُصنعين في أماكن أخرى بطريقة مأمونة. وهذا بالضبط عكس ما يمكن أن يفضي إليه أحد بنود الانقضاء التلقائي المنصوص عليه في اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية، ولهذا السبب حذرت شركة ايرباص مؤخرا من أن الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي ستكون له تداعيات سلبية حادة على صناعة الفضاء في بريطانيا، حيث يتطلب أسلوب التكامل المرن القائم على نظام الوحدات القدرة على الاستفادة من المواهب في أي مكان في العالم. ففي وادي السيليكون مثلا، نجد أن أكثر من نصف العاملين في مجموعة العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات مولودون في دول أجنبية، فيما تقل نسبة المولودين في كاليفورنيا عن الخمس، وهي ولاية تأتي في المرتبة السادسة والثلاثين بين أكثر دول العالم سكانا، إذ يقطنها 40 مليون شخص، وفي ظل القيود الشديدة التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب على الهجرة، رفع جيران الشمال لوحات ضخمة في وادي السيليكون مكتوب عليها "هل تواجه مشكلات في تأشيرة العمل؟ فكر في كندا".غير أن تنفيذ كثير من التقنيات يتطلب أيضا مكونات لا يمكن توفيرها إلا من خلال آليات غير سوقية، وهنا تؤدي الحكومات دورا حاسما، فلو نظرنا مثلا إلى مشاريع خطوط السكك الحديدية عالية السرعة، فسنجد أن أي شركة خاصة لا تستطيع بناء خط سكك حديدية دون تصريح وتعاون حكوميين، ويبلغ طول السكك الحديدية عالية السرعة في أوروبا الغربية أكثر من 14 ألف كيلو متر (8700 ميل)، في حين يصل طولها في الصين إلى أكثر من 25 ألف كيلو متر، وتدعي الولايات المتحدة أن لديها 56 كيلو مترا في مساحة صغيرة تغطي أقل من 8% من المسافة بين بوسطن وواشنطن العاصمة، وسبب ذلك واضح، وهو أن هذه تقنية تتطلب قرارا اجتماعيا، وحكومة تمكِّن من إدراك هذا الاختيار، تماما مثل السيارات الكهربائية.بإيجاز تتطلب التكنولوجيا مجتمعا يتصل بالعالم من خلال طريقي التجارة والانفتاح على المواهب، كي يمكن الاستفادة من مكاسب أسلوب التكامل القائم على نظام الوحدات، كما تتطلب أيضا مجتمعا قادرا على تنمية إحساس مشترك بالهدف، يكون عميقا وقويا بدرجة كافية لتوجيه الحكومة نحو توفير الأموال العمومية التي تتطلبها التقنيات الجديدة. ولتسهيل تحقيق الشرط الأول لا بد أن يكون هناك مجتمع يتمتع بإحساس أوسع وأكثر شمولية بأعضائه الحقيقيين، أما تسهيل إدراك المتطلب الثاني فيحتاج إلى إحساس أعمق وأكثر مغزى بالعضوية.وليس من السهل تنمية هذين الاتجاهين في أي مجتمع، إذ يتطلب الأمر إحساسا مدنيا أكثر منه عرقيا بمفهوم الأمة، ولذا لا يقتصر الرهان في النقاشات المتعلقة بالسياسات اليوم في الغرب على قضية القيم فقط، ففي عالم تسوده التنافسية، يدفع المجتمع ثمنا غاليا لعدم قدرته- أو عدم استعداده- على توفير ما تريده التكنولوجيا.لقد اختارت الإمبراطورية الإسبانية طرد اليهود والموريسكيين من مملكتها في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، وحاولت فرض تعصبها على المناطق الخاضعة لسيطرتها في البلدان المنخفضة في القرن السادس عشر، إلا أنها فشلت في ذلك، لكننا نلاحظ أن هولندا ظهرت كمنارة للتسامح جذبت بعض أعظم مواهب أوروبا من ديكارت إلى سبينوزا، بعد حرب استقلال دموية استمرت 80 عاما، فلا غرو أن تصبح أغنى دولة في العالم خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر.ربما تجاهلت قوى الشعبوية الموجودة اليوم متطلبات التكنولوجيا وفرضت رؤيتها على العالم، لكنها ستودي بمجتمعاتها دون قصد إلى حال منظومة السكك الحديدية في أميركا نفسها، التي تسلك مسارا بطيئا للغاية.* ريكاردو هوسمان* وزير التخطيط الأسبق في فنزويلا، وكبير الاقتصاديين في بنك التنمية الأميركي سابقا، ومدير مركز التنمية الدولية التابع لجامعة هارفارد، وأستاذ الاقتصاد في كلية كنيدي بذات الجامعة.«بروجيكت سنديكيت، 2018» بالاتفاق مع «الجريدة»