لعلَّ توظيف ضمير المُتكلم في سرد المادة الروائية أحد أبرز العوامل التي توثق الصلة بين صاحب النص والشخصية الأساسية، إضافة إلى جملة عناصر أخرى مثل التطابق بين تجارب الكاتب وبين بطله الروائي وتقارب اهتمامات الاثنين على الصعيد الحياتي.

لا يعني هذا خلو المادة المسرودة مما هو مُتخيلُ وأنَّ كل ما يُروى مُتَماثل مع سيرة الكاتب الذي يُفضلُ أن يكونَ متوارياً وراء من يوكل إليه وظيفة عرض القصة وتسلسل الأحداث، من ثم إطلاق الأحكام على شخصية المُؤلف بناءً على موقف شخصيات قصصية لأنَّ ثمة أمثلة مُتعددة عن التناقض بين رؤية الكاتب وبين مسارات عمله الأدبي. ويذكرُ الدكتور شكري عزيز ماضي الكاتب الفرنسي بلزاك مثلاً على هذه الحالة، إذ يدين صاحب «الأب غوريو» تفسخ المجتمع البرجوازي في رواياته بينما كان مؤيداً للنظام البرجوازي على الصعيد السياسي. لذا من الضروري عدم الانجرار وراء القراءات الإسقاطية واقتناص مواقف مُحددة في سياق العمل الروائي مع التغافل عن مكوناته الأخرى حتى وإن كانت ملامح الذاتية طاغية كما في تجارب الروائية التونسية الواعدة نادية الشتيوي، من بينها روايتها القصيرة المعنونة «الغريب» الصادرة عن دار «مومنت للكتب والنشر».

Ad

يتخللُ تأثير قراءات الشتيوي في مضمون عملها السردي، ويحمل ما تقدمه هموم الذات شأنَّ كل رواية تكتبها المرأةُ في المجتمع المُسيج بتقاليد ذكورية.

رواية الشخصية

قد تتحولُ الرواية الأولى في تجربة أي مؤلف إلى أداة للبوح وتنطبعُ خبراته على تشكيلته السردية، إذ يكون البطل وجهاً آخر للكاتب. ربما يصحُ هذا الطرح بالنسبة إلى الروايات النسوية أكثر، إذ إنَّ الاسترسال في التعبير في قوالب روائية يتيحُ فضاءً غير مضغوط بإكراهات اجتماعية. لذا تتصف الشخصية الأساسية المنحوتة برؤى أُنثوية بخصوصيات الذات التي عانت نتيجة التهميش والتصورات الاختزالية والتقيد بنظرة أحادية في العلاقات القائمة بين الرجل والمرأة، وتكون الأخيرة غالباً ضحية هذه المعادلة غير المُتكافئة.

عليه، فإنَّ نادية الشتيوي تبني مادتها الروائية على البحث عن هوية الذات المرتبطة بالآخر الذي لا يتخذُ شكلاً واضحاً يكتنفهُ الغموض، سواء أكان الآخر مُتمثلاً في صورة الأب الغائب أو العاشق المُختفي أو الزوج المُنتحل شخصية أخرى. من هنا، يمكنك تفسير هاجس بطلتها أروى عن مستقبل ابنتها شهد وخوفها من أن تعيشَ آلام الأمِ فلا يختلفُ شكل حياتها عما ذاقته الأخيرة من فراق وانقطاع مما يُعدُ مصدراً لسعادات صغيرة.

ينطلقُ السردُ من لحظة وجود البطلة أروى في النزل، وهي تصطدم بما يقع عليه نظرها من أشيائها المبعثرة في الغرفة. لا تتذكر شيئاً إلا أنها أسرفت في الشرب إلى أن أصبحت مترنحةً، وعندما تهبُ صوب المرآة لا تجدُ في الشكل ما يفسر حالتها، شعر منفوش، وتعجزُ عن استعادة توقيت وصولها إلى الغرفة. وحين تُدقِقُ في هاتفها ترى المكالمات التي وصلتها.

تكمن حبكة النص من هذا المشهدِ، الأمر الذي يُذكرك بالأفلام السينمائية التي يضعك مخرجها إزاء الحدث الأساسي من البداية بغرض شدك إلى متابعة محتويات مُتسلسلة. من ثُمَّ، يكشف الراوي العليم أن السبب وراء مكوث المرأة المتزوجة في النزل شجار عنيف وقع بينها وبين الزوج محمود، رجل الأعمال الشهير. وتمرُ ومضات من ذكرياتها عن الأشخاص الذين بادلوها الحب في مراحل مُختلفة، ضياء ونبيل... قبل أن تجمعها المصادفة بمحمود العابد في أحد المقاهي المطلة على البحر. يعجبها حُسن تصرفه وما يبديه من اهتمام بأمرها، كما أن نجاحه يغذي رغبتها في أن تكون امرأة متفوقة.

تكتفي الراوية بالإشارة إلى الظروف التي نشأت فيها العلاقة بين الاثنين من دون إسهاب، وتتوارد معلومات عن خلفية الشخصية الأساسية بموازاة رصد ما يعقبُ الليلة التي أمضتها أروى في النزل.

فوضى

تشهدُ حياة أروى أزمة معقدة بعدما تكتشفُ أنها حامل عقب ليلة النزل، وهي عاشت خمس سنوات من الحرمان من دون الشعور ببهجة الأمومة. عندما تتلقى خبر نهاية الترقب والانتظار تزداد قلقاً إذ تشوب فرحها ريبة حول هوية والد الجنين، بينما يحتفل الجميعُ بمن فيهم محمود بهذه البشارة.

تنغرز أروى في فوضى مشاعرها ويشغلها المجهول الذي رافقها من الحانة إلى الغرفة رقم 484، وحين تبادر إلى التواصل مع صاحب الهدية الذي ترك لها رقم هاتفه تندمجُ في عالمها الخاص ويوخزها الشعور أحياناً بأنها تخون محمود الذي لم يفهم أنوثتها ناعتاً إياها بالبرودة، وكان يختار توقيتاً خاطئاً للارتشاف من عذوبتها. ويغلف علاقتها الجديدة بالغموض امتناع من يراسلها عن الظهور، وهو يخلف بموعده في المقهى مكتفياً بإرسال باقة الورد، كذلك في قاعة المسرح يغادرُ المكان قبل أن تلحق به.

وتشتدُ حدة المفاجأة حين تحضر أروى حفلة توقيع صديقتها إصدارها الجديد، وأثناء تصفحها الكتاب ترى كلمات معبرة عن الإعجاب تحيلها إلى ما قرأته في بطاقة الرجل المجهول الذي كشف إعجابه بما كانت تتمع به تلك الليلة الفارقة.

بهذا، وإن كانت حياة البطلة تبدو هادئةً في الظاهر في إثر ولادة الطفل وتلطيف علاقتها مع محمود المحتفي بالصغير، فإنَّ أعماقها تفور بمشاعر مُختلفة ومتناقضة. تنقطع الرسائل من المجهول تزامناً مع غياب محمود العابد وهروبه بعد اتهامه بالتورط في الفساد، وتبدأ أروى من جانبها بالنبش في أوراقه لعلَّها تلتقط ما يوضح حقيقة زوجها الذي حسنت به ظناً.

أخيراً، تعثرُ على شريحة هاتف مخبأة وراء صورتها في مكتب محمود، وما إن تستخدمها حتى تتأكد أن الرقم هو نفسه الذي تركه الرجل المجهول بعد ليلة النزل. هكذا ينجلي الغموضُ عن الرجل ونكتشفُ طبيعة نجوى التي امتنعت عن إبلاغ صديقتها أروى بحقيقة انتحال محمود شخصية رجل آخر، وتوسلات الأخير لإقناع زوجته للالتحاق به في فرنسا، فيما بيّن ما تورده الكاتبة على لسان نجوى ميولاً مثلية لدى الأخيرة.

يذكرُ أن هذه الرواية القصيرة تُصنف ضمن ما يسمى برواية التكوين التي تصور التحولات العاطفية والنفسية والفكرية، تنتهي بنضج الشخصية الأساسية وفقاً لتعريف جابر العصفور لهذا النوع من الروايات. ويُشار إلى أن الكاتبة تفوّقت في تنويع الضمائر وتمتازُ لغتها بالجزالة والطاقة الإيحائية، وهي نجحت في إسباغ الإثارة والتشويق في مادتها المروية. أكثر من ذلك، عدم انزلاق السرد نحو معاداة الجنس الآخر والتهجّم عليه.