لماذا أقاطع «فيسبوك»؟
قبل ثلاث سنوات أجرت معي قناة فضائية عربية حواراً حول وسائل "التواصل الاجتماعي"، والتداعيات السلبية الناجمة عن الإفراط في استخدامها؛ ومن بين الأسئلة التي وجهها إليّ المذيع: "لماذا لا تمتلك حساباً على (فيسبوك)؟"، وكانت الإجابة: "لأنني أعتقد أن مضار امتلاك هذا الحساب أكبر من فوائده".بالفعل، لم أمتلك حساباً على "فيسبوك" حتى يومنا هذا، ولا أعتقد أنني بحاجة إلى امتلاك هذا الحساب، والأهم من ذلك أنني ما زلت عند اعتقادي بأن هذا القرار كان، وما زال، صائباً.لقد تشاركت معكم الهواجس والأدلة التي تجعل من قرار عدم امتلاك حساب على أي من مواقع "التواصل الاجتماعي" النشطة قراراً مقبولاً، أو أقرب إلى الصواب، على مدى سنوات.
في تلك الزاوية بالذات، يمكنك مراجعة مقالاتي السابقة؛ ومنها "رعايا في جمهورية (الإنترنت)"، الذي نشر في 16 نوفمبر 2014، أو "الدور الإرهابي لمواقع (التواصل الاجتماعي)"، في 30 نوفمبر من العام نفسه، و"الحرب التي خسرناها مع (داعش)" في 5 يونيو 2016، و"هل يسبب (فيسبوك) التعاسة؟"، في 25 أغسطس من العام نفسه، و"الانتحاريون الجدد"، في 7 مايو 2017، و"تواصل اجتماعي أم ساحة معركة؟" في 18 يونيو من العام نفسه، و"انتبه لتغريداتك... (تويتر) ليس سوى فخ"، في 11 فبراير الماضي.عبر مراجعة تلك المقالات ستدرك أن ثمة مخاطر حقيقية وجمة ناتجة عن الإفراط في استخدام تلك الوسائط، أو الانخراط فيها من دون تأهيل وحذر مناسبين؛ وهي مخاطر تتوزع على طيف عريض من التداعيات السلبية؛ مثل التزييف، وتسهيل ارتكاب الجرائم، والاكتئاب، وإضاعة الوقت، وتهشيم آليات النقاش الموضوعي، والاستلاب، وصولاً إلى اتخاذ قرار بالانتحار.ليست هذه محاولة لاستدعاء الحكمة بأثر رجعي، ولا طريقة للبرهنة على نجاعة الرأي، وإنما هي مسعى للتأكيد على أن مضار استخدام هذه الوسائط الجديدة على عالمنا أكبر من ترف تجاهلها، وأن هذه المضار يجب أن تدعونا إلى وقفة مع الذات، ومع المجتمع، للوصول إلى صيغة أنسب للتعاطي معها.خلال الشهرين الفائتين، صدر كتابان مميزان في مقاربتهما لمضار وسائط "التواصل الاجتماعي"؛ أولهما كتاب "عشرة أسباب لإلغاء حساباتك على مواقع (التواصل الاجتماعي) فوراً"Ten Arguments for Deleting Your Social Media Accounts Right Now، لاختصاصي الحواسيب "جارون لانييه" Jaron Lanier، وهو الكتاب الذي قامت صحيفة "الغارديان" البريطانية بتقديم عرض له، في 30 مايو المنصرم.يعدد "لانييه" في كتابه الأسباب العشرة التي يرى أنها كافية لكي يتخذ كل فرد من مستخدمي هذه الوسائط قراراً بمقاطعتها؛ مُذكراً بما أصبحنا نعرفه جميعاً عن خطاياها.من بين الأسباب التي ساقها "لانييه" في كتابه أن تلك الوسائط تكتسب تمكنها من الإضرار بمصالحنا بمجرد استخدامنا لها، وأن هذا التمكن يزيد مع كثرة الاستخدام: "كلما استخدمناها... مكّناها من النيل من مصالحنا".ويشير إلى أن نموذج الأعمال الذي ينطلق من "السوشيال ميديا"، ويعتمد عليها، آخذ في الاتساع، حتى بات يسيطر على جزء معتبر من معاملاتنا الاستهلاكية والمالية، وهو أمر في غاية الخطورة كما يرى "لانييه"، لأن ازدهار هذا النموذج "يخصم مباشرة من كرامتنا الإنسانية"، بسبب اتصاله المباشر بعاملين جوهريين؛ أولهما: التفريط في خصوصيتنا، وثانيهما: الخضوع لتكنيكات الدعاية السمجة المستندة إلى التلاعب، وعدم احترام عقولنا. أما الكتاب الثاني، الذي صدر في شهر يونيو الماضي، فعنوانه: "الإعلام المعادي للمجتمع: كيف تمكن (فيسبوك) من الفصل بيننا وتقويض الديمقراطية؟"Anti-Social Media: How Face Book Disconnected us and Undermines Democracy?.وكما يظهر من عنوان الكتاب، فإنه أولاً يستخدم عبارة "سوشيال ميديا" على النحو الذي يعتقده الكاتب من أنها "أنتي سوشيال" Anti- Social، أي ضد المجتمع، وليست أسلوباً للتواصل وبناء الروابط الاجتماعية كما تشير تسميتها المفترضة.مؤلف "الإعلام المعادي للمجتمع" سيفا فيدياناثان Siva Vidhyanathan مؤرخ ثقافي، وبروفيسور في جامعة فرجينيا؛ ولذلك، فإن مقاربته كانت أكثر ارتباطاً بالسياق الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي تزدهر فيه وسائط "التواصل الاجتماعي"، ويزداد تأثيرها.يقول فيدياناثان إن تلك الوسائط جعلت من الخصوصية، التي تحميها الشرائع والدساتير والقوانين ومعايير حقوق الإنسان العالمية، سلعة تباع وتشترى.ويوضح كيف أن الإغراق في استخدام حساباتنا على تلك المواقع أسهم في الحط من شأن السياسة والسياسيين، وقوض الأساليب الديمقراطية، ملمحاً إلى أن تلك الوسائط تتحمل قدراً كبيراً من المسؤولية عن صعود التيارات الفاشية، وازدهار العنصرية، والنجاحات المتتالية التي تحققها الأحزاب والحركات اليمينية في المجتمعات التي عرفت رسوخ الديمقراطية منذ عقود.بحسب فيدياناثان، فإن تلك الوسائط وفرت لنا "أسوأ منتدى لإجراء حوار سياسي"، وأنها ساهمت بقدر كبير في إشاعة الابتذال واللغة المنحطة، عبر اعتمادها على بث الرسائل الملتهبة، التي تركز على إثارة المشاعر، بدلاً من تهيئة المجال لإدارة حوارات عقلانية، بقدر مناسب من المسؤولية.نحن نعرف أن تلك الوسائط باتت بمنزلة أسلحة تستخدمها جماعات الإرهاب والعنف، وأنها تحفل بخطاب تحريضي، ورسائل تحض على التعصب والكراهية، وأن كافة الجهود التي تم بذلها من أجل الحد من تلك الأضرار لم تنجح في القضاء عليها، أو تقليل أثرها الحاسم.لا يقتصر الأمر على ما يتعلق بالاستخدامات المسيئة من الجماعات الإرهابية؛ مثل "داعش" أو "القاعدة" وغيرها، ولكنه يتعدى هذا إلى الحكومات للأسف، وبعض هذه الحكومات يقع في دول العالم الحر، أو ينتمي إلى دول استبدادية، تستخدم هذه الوسائط من أجل إشاعة أفكار وتوجهات سلبية، أو الحض على اتخاذ قرارات تمثل خطراً بالغاً على الديمقراطية، وتنال من القيم الإنسانية التي تشكل نسقاً متفقاً عليه عالمياً، في ما يتصل بالخطاب الموجه إلى العموم.ليست تلك هي أبلغ الأضرار التي يحذر منها الكاتبان، ومعهما الكثير من النقاد، ولكن أبلغ تلك الاضرار وأكثرها فداحة يتعلق بتوقعهما إخفاق أي محاولة لضبط هذا المجال وترويضه؛ وهو أمر يضيق، إلى أقصى درجة، خيارات المستخدم الرشيد.* كاتب مصري