ثلج القاهرة
"ثلج القاهرة"، رابع رواية للدكتورة لنا عبدالرحمن، صدرت لها من قبل روايات "حدائق السراب" 2006، و"تلامس" 2008، و"أغنية لمارغريت" 2011، وفي القصة القصيرة لها مجموعتان، "أوهام شرقية" 2004 و"الموتى لا يكذبون" 2006."ثلج القاهرة" رواية للمثقفين، لأنها تدور في أجواء يصعب فهمها على القارئ العادي، كما أنها تحتوي على معلومات ومفاهيم لا يستوعبها من لم يفهمها ولم يطلع عليها من قبل، موضوعها يدور حول فلسفة "الكارما"، الآتية من المعتقدات الهندوسية والبوذية والطاوية، وقانونها الصارم الذي يتحكم في الحياة حتى من بعد الممات، قانون الكارما يفرض نفسه على الإنسان ليقوم أخلاقه بالعقاب أو الثواب بحسب تصرفاته بالخير أو بالشر لتنعكس على حياته، والكارما لا تفنى، تبقى تطالب بحقها حتى بعد الفناء.الحكاية تتوزع بين حياتين، الأميرة المصرية "نورجهان" التي قُتلت بقصرها في ستينيات القرن الماضي، وذاتها المسكونة بروح "سولاي الغجرية"، وبين حياة بشرى التي تعيش بزمننا الحاضر ومسكونة حياتها بنور جهان، وما بين هاتين الحياتين تدور حكاياتهما المتداخلة بالأحاسيس الغامضة المشتركة بينهما، ومن هذه التنقلات يتعرف القارئ على الماضي والحاضر لهما، إلى أن تكتشف بشرى قاتل نورجهان بقصرها القديم، والذي تعاقبه وتنتقم منه الكارما ولو بعد حين، عندما يقوم بقتل نفسه، وبهذا الانتقام ترتاح روح نورجهان وتنفصل عن بشرى التي تعود إلى الحياة الطبيعية مرة أخرى لتقرر الزواج وإنجاب طفل من صديقها ناجي.
لنا عبدالرحمن متعمقة في دراسات الفلسفات الشرقية، خاصة الكارما والتخاطر، على ما أعتقد، وأسلوبها وكتابتها الهادئة الخالية من الانفعالات الدرامية العنيفة، مما ناسب روح الرواية تماما، بحيث باتت كأنها بحث فلسفي عن إشكالية الوجود، وربما بعضنا يشعر ويتخاطر مع حيوات سابقة بشكل أو بآخر، ويحس بمشاعر سبق أن عاشها من قبل، أو أزقة وأمكنة أو مشاهد يتخيل أنه قد عاشها أو رآها من قبل، وربما هناك من يشعر بها بشكل أقوى وأكبر من غيره، الكتابة تساعد تماما على التخلص من هذه الأحاسيس المزدوجة القوية، وأنا واحدة منهم، الكتابة كانت خلاصي.وهذا مقتطف منها: "تتشابه تفاصيل حياتي مع تفاصيل حياتها، نمضي في روح واحدة عبر أكثر من جسد، لنشكل ذاكرات تتراكم فوق بعضها مثل الجماجم الميتة، خرساء وصامتة، تراقب عن كثب كل ما يدور حولها، وتسبب الخوف لمن يحدق في فجوات العيون". "إن النفس لا تموت، بل يموت قميصها الجسد، وينتقل إلى قميص آخر، أي جسد آخر. لا شيء يموت، الإنسان يظن أنه يموت ويتحمل مهزلة المآتم والتعازي، وها هو يقف متخفياً في مكان آخر ينظر من النافذة حياً معافى".لنا عبدالرحمن أجادت في تصوير ونقل روح المكان، وهو القاهرة ودمشق، وبعثت الإحساس النابض فيه بشكل حي مبهر، وربما لأنني أعرف تماما تفاصيل المدينتين جعلتني أعيش معها، وأتنقل وأرتحل مصاحبة كل تحركاتها، ومشاعري كلها تنبض بمصاحبتها كأنها حقيقة وليست على الورق، وهذا مقتطف يمثله: "صفحة النيل صافية، ثمة التماعات شفيفة بين الغروب والظلال المنعكسة على النهر، تغوي بالتأمل والسكون، الهواء شفاف كما لو أن لا صلة له بهواء عوادم السيارات، سكون النيل بعيد عن الضجيج والصخب، برهة من الزمن المسروق".الرواية ضاعت زمنا بين ركام الكتب المتكدسة خارج مكتبتي، إلى أن وجدتها مصادفة عندما رتبت الكتب، وبصراحة وجدت العنوان فيه شيء لا يُصدق أو غير جذاب، واحترت من سبب اختيارها لهذا العنوان، خاصة أن مدينة القاهرة نادرة المطر فكيف يأتيها الثلج؟لكن بعد قراءتي للرواية توصلت إلى نتيجة ربما كانت د. لنا في حيرة للحصول على عنوان لرواية وجودية تبحث بواقع صعب فولدت العنوان من هذا المشهد: "فكرت بشرى أن الناس تغلي في قدر كبير، على نار هادئة، وتحت شمس عنيدة، يذوبون على مهل، من دون مقاومة. القاهرة تحتاج إلى ثلج يغطيها تماما، ثلج يوازن الأشياء لتعود إلى طبيعتها، ثلج يخفف من حرارة الناس، يذيب طبقات السواد التي تغطي أرض المدينة، ليحل مكانها لون أبيض ناصع، وتخرج من شقوق الثلج قاهرة يافعة ببرعم أخضر نقي يقاوم طبقات الشحم التي سدت مكان خروجه".رواية رائعة تبحث في أسئلة الوجود بصوفية وتأمل عميق راق.