تصل عاصمة ما أو مدينة وتتابع قبل وصولك وبعده حوارات تدور هناك حول تنويع مصادر الدخل والتطورات في التكنولوجيا والابتكارات الحديثة، وتفاجأ بعدد الشباب في البرلمانات والمناصب والمبدعين منهم، ولا بد أن ترى مدنا كانت حتى في دول عالم ثالثية قد تحولت خلال فترات بسيطة إلى مساحات واسعة لإنتاج المعرفة وحملات مجالات التطورات التكنولوجية الحديثة الصديقة للبيئة. تزور الأسواق فتجد أنها مليئة بمواد منتجة ومصنعة محليا، ولا تستطيع أن تمنع نفسك من المقارنة مع مدننا ومسؤولينا و"ممثلي شعوبنا" أو أن تتذكر جبران خليل جبران ومقولته الشهيرة "ويل لأمة فيها المذاهب والطوائف وتخلو من الدين، ويل لأمة تلبس مما لا تنسج، وتأكل مما لا تزرع، وتشرب مما لا تعصر، ويل لأمة تحسب المستبد بطلا، وترى الفاتح المذل رحيما... ويل لأمة مقسمة إلى أجزاء، وكل جزء يحسب نفسه فيها أمة...".تقرأ عما تصدره الدول للعالم وتقارنه بما نصدره نحن؟! عن الاستثمار في العقول والمواهب والإبداع وتجد أن أكبر ما تصدره الهند هو شبابها الأكثر ذكاء ومهارة ومعظمهم خريجو "كلية الهند للتكنولوجيا" التي أصبحت قبلة لغوغل ومايكروسوفت وغيرهم من الشركات العملاقة في الولايات المتحدة، فيما يردده بعض الخليجيين "ليش أنا هندي" مع لهجة احتقار لذلك المواطن الذي يعمل ليل نهار ليوفر لهم حياة أفضل، والذي يعامل في بعض الأحيان معاملة العبيد!!
سنوات مما عرف بالطفرة النفطية والأموال تتدفق لم تزدنا سوى اعتماد على الخارج واستهلاك واتكالية، لم نستثمر في المراكز البحثية عندنا أو في الدول المجاورة، ولم نرسم خططا مستقبلية طويلة الأمد لنخلق شبابا أكثر معرفة وخبرة وانفتاحاً على العالم، حتى تلك الفئة التي التحقت بأهم جامعات أميركا وأوروبا عادت لتستمر في النهج الاقتصادي الاستهلاكي نفسه، أي في العمل في التجارة ووزارات الدولة أو قطاع خاص يستورد كل الماركات الحديثة ويستهلكها بنهم لا سابق له للاستهلاك المقيت!! وفيما كانت الهند والصين والدول الأخرى تعمل على ابتكار أسرع قطار وأهم دواء لمحاربة الأمراض المستعصية وإيجاد بدائل للطاقة صديقة للبيئة ومعالجة المياه وتوفير خدمات رخيصة وإيقاف الانتهاكات المستمرة للبيئة وغيرها، كنا نحن نتفاخر بأكبر عمارة بنيت بسواعد عمالة وافدة رخيصة تعمل ساعات الليل والنهار وتعيش في مساكن غير آدمية، وتمارس عليها كل أشكال التعسف، وتنتهك حقوقها المعترف بها في المواثيق الدولية، وفيما هم ينتجون كنا نحن نغرق في الحوار الطائفي المقيت وتوزيع الشهادات لدخول الجنة وعمليات التشهير والتكفير بالآخرين، ثم نعود لنبذل الأموال لشراء الأسلحة تحت رايات محاربة الإرهاب، فنهدر موازناتنا على كميات من الأسلحة تخلق فرص عمل كبيرة في مصانع بعيدة جدا فيما نحن نعاني أكبر نسبة شباب عاطلين عن العمل في العالم! وفيما هم يبنون المصانع والمختبرات الحديثة كنا نحن نتبارى في عدد المساجد والمراكز الدينية التي في مجملها ساهمت في نشر الفكر التطرفي والتكفيري وخطاب الكراهية المتبادل، وحوارات لا تبعد كثيرا عن أين يسكن الشيطان بيننا؟ وكيف يفرق الزوج عن زوجته و... و...؟! هم يطورون وسائل التواصل لنشر المعرفة والعلم ونحن نساهم في استخدامها الخاطئ لتصبح أداة للتدمير ونشر التسطيح المطلق والإشاعات التي تقسمنا إلى شعوب ومناطق وجماعات وقبائل. وهم ينتخبون رئيسا لبلديتهم مسلماً من باكستان ووزيرة من أصول عربية، ونحن نرفض من عاشوا معنا منذ سنين ولا نمنحهم حقوقا ولا جنسية، بل في الكثير من الأحيان نسحب جنسياتهم عنهم، وإذا منحنا جنسيات فهي حسب الولاء بدلا من الاستثمار في العقول، كما تفعل معظم دول العالم لمن سيقدم للمجتمع خبرة أو معرفة أو علما. نجري خلف القشور لنرسم صوراً لمدن حداثية أو ما بعد حداثية بمجمعات ضخمة وأسواق ومحلات فاخرة ومطاعم من الأكل الصيني إلى السوشي والإيطالي والهندي والمكسيكي، ونستنسخ نماذج مختلفة للثقافة دون الاهتمام بالمحافظة على ما تبقى من تراثنا أو ثقافتنا، فالطعام ثقافة أيضا وتعبير عن حضارة، وهو شكل من أشكال الثراء الذي تصدره شعوب لزوايا الكون كما يفعل الصينيون والهنود والإيطاليون وغيرهم، فيما تصبح الوجبه المحلية مصاحبة للمهرجانات الموسمية الممجوجة، وكأنها تحفة فنية نظهرها في موسم وتختفي طوال العام!! فقدنا حتى لغتنا ولم نعرف أن نحافظ عليها رغم أن الجميع يردد أنها لغة القرآن، ورغم جمالايات تفاصيلها وأصبحت الصورة النمطية لمجموعة من الشباب المتعلمين هي التواصل باللغة الإنكليزية وعدم معرفة خط فقرة واحدة بلغتهم الأم فيما هم يكثرون العبادة والصلاة!! أو ما يشبه الصلاة والدين أو قشورهما. يبحث البعض عما تبقى منا فلا يجد سوى قشور القشور أو مسخ لثقافة وحضارة، وما زلنا نردد "ليش أنا هندي!!" عجبي!!!* ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية
مقالات
خربشات فوق صفيحة نفط
09-07-2018