رغم مرور ثماني سنوات على رحيل المفكر التنويري الذي أمضى نحو 15 عاماً في منفاه بهولندا في إثر تكفيره من أصوليين متشددين وصدور حكم قضائي بتفريقه عن زوجته، فإن وصيته «اكتبوا على قبري: هنا يرقد أحد الحالمين بمستقبل أفضل. أيها الزائر قبري لا تكف عن مواصلة الحلم»، لم تتحقق. كان مؤيدون لأفكار أبو زيد زاروا المقابر التي دُفن فيها بقرية «قحافة» في محافظة الغربية (شمال القاهرة) واكتشفوا أن قبره بلا شاهد يشير إلى هوية من ووري الثرى، ولولا أنهم سألوا حارس المقابر عن قبر أبو زيد ما كانوا وصلوا إليه، ما دفع كثيرين إلى إعادة نشر وصيته التي وردت في كتاب كمال الرياحي، عبر مشاركات عدة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام الماضية.
الجهات الثقافية الرسمية في مصر تجاهلت أيضاً ذكرى رجل يعد آخر مفكر عربي أجبر على النفي خارج وطنه بسبب آرائه وفكره، إذ لم تنظم فاعلية واحدة في المناسبة.
عودة قبل الرحيل
15 عاماً أمضاها نصر أبو زيد في المنفى تجنباً للموت قتلاً على يد أحد الجهلاء المتشددين، على الطريقة التي أمضى بها فرج فودة، لكنه عاد إلى مصر عام 2010، واستُقبل آنذاك بحفاوة بالغة من تلامذته والمؤمنين بأفكاره. واختار له القدر أن يطوي آخر صفحات حياته في تراب وطنه بعد أسبوعين من العودة، ليودع الدنيا في 5 يوليو 2010، عن عمر يناهز 67 عاماً، متأثراً بإصابته بفيروس غريب فشل الأطباء في تحديد علاجه، ودُفن في ثرى قريته «قحافة» في محافظة الغربية (شمال القاهرة) التي ولد فيها يوم 10 يوليو 1943.رحلته العلمية
نشأ نصر أبو زيد في أسرة ريفية بسيطة. في البداية، لم يحصل على شهادة الثانوية العامة (التوجيهية) ليتمكن من استكمال دراسته الجامعية، لأن أسرته لم تكن تستطيع الإنفاق عليه في الجامعة، فاكتفى بالحصول على دبلوم المدارس الثانوية الصناعية (قسم اللاسلكي) عام 1960، ثم عمل بضع سنوات حتى استطاع أن يوفر لنفسه فرصة الدراسة الجامعية.بعد 12 عاماً حصل أبو زيد على شهادة الليسانس من قسم اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب جامعة القاهرة 1972 بتقدير ممتاز، ثم ماجستير في القسم والكلية نفسيهما في الدراسات الإسلامية عام 1976 بتقدير ممتاز أيضاً، ثم دكتوراه عام 1979 بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى.وعندما قدَّم أبحاثه للحصول على درجة أستاذ تكونت لجنة من أساتذة جامعة القاهرة بينهم المفكر الراحل عبد الصبور شاهين الذي اتهم في تقريره الدكتور نصر بالكفر، وحدثت القضية المعروفة التي انتهت بتركه الوطن إلى المنفى في هولندا (1995) بعدما حصل على درجة أستاذ، بأسابيع.وكانت دراساته الكثيرة للنص الديني وتعمقه فيها ودعوته إلى تأسيس منهج جديد يقوم على العقل، بمنهج مخالف لما اعتاد عليه مفكرون كثر في عصره، سبباً في تكفيره واتهامه بالإلحاد من الأصوليين المتشددين. كذلك فرّقوا بينه وبين زوجته بحكم قضائي، بسبب اتجاهه العقلي في الدراسات الإسلامية عموماً وآرائه في الدين خصوصاً، وهكذا وُضع على قائمة «المطلوب إهدار دمهم» من رجال دين متشددين.فلسفة التأويل
اهتمّ أبو زيد خلال رحلته العلمية بثلاثة محاور رئيسة هي: دراسة التراث على أسس علمية ووضعه في سياقه التاريخي، ونقد خطاب الإسلام السياسي، وتأصيل وعي علمي بدلالة النصوص الدينية، وأصَّل لهذه المحاور في كثير من كتبه، مثل «الاتجاه العقلي في التفسير»، و«فلسفة التأويل»، و«نقد الخطاب الديني»، و«مفهوم النص دراسة في علوم القرآن».واعتمد المفكر الراحل في موقفه من التراث وفي القلب منه القرآن الكريم على منهج تأويلي يرتكز على الفكر المعتزلي الذي أعلى من دور العقل في فهم وتحليل النصوص، كذلك على التراث الصوفي.أبو زيد الذي كان في شبابه قريباً من جماعة الإخوان المسلمين، قال في تصريحات له قبل رحيله: «يهدِّد خطابي خطاب الإسلاميين، لأني أحلله وأكشف النقاب عن الخطأ والتلاعب في خطابهم السياسي. إنهم يعلمون أني لست مرتداً ويعرفون أنه لا يوجد في كتبي وأبحاثي أي دليل على ذلك».