إذا كان من مهمة مقدّسة يقدمها الفن على اختلاف أجناسه لبني البشر، فهي مساعدتهم على المشي في ممر الحياة الضيق والزلق. الفن، في تجلياته الأجمل، حبة علاج منعش يساعد الإنسان على احتمال مواقف الحياة الأصعب.كل فينا له عيشه بجانبه المشرق وجانبه المظلم والموجع، ووحده الفن: القصيدة والأغنية واللوحة والقصة والرواية والمسرحية والفيلم، يخرج بالإنسان من ضنك لحظته العابرة التي تقسو عليه بتناقضاتها وظلمها وقسوتها، لينقله إلى لحظة أخرى ببيئات أخرى وحيوات أخرى، وهو في انتقاله من مكانه وزمانه وظرفه ووجعه إلى تلك الحياة المتخيلة، إنما يتحرر من وجعه ويكتسب مناعة تعينه على العودة الواعية إلى ظرفه، وبالتالي معانقة طريق الحياة.
أشاهد مباريات كأس العالم لكرة القدم المقامة حالياً في روسيا، فأنا عاشق للعبة كرة القدم منذ صغري، ووحدهم من يعشقون لعبة كرة القدم يعرفون معنى المتعة العجيبة التي يعيشها من يلعب مباراة لكرة القدم؛ سواء في الحي أو المدرسة أو الجامعة أو النادي.ولا أبالغ حين أقول إنني خبرت شيئاً من متع الحياة، ووحدها متعة لعب كرة القدم لا تشبه إلا نفسها! فهي بقدر ما تكون فردية هي جماعية، وبقدر ما تخص نتيجتها الفرد تخص الفريق، وهي - وهذا شيء مهم جداً في خصوصيتها - تشرك المشاهد المشجع وكأنه أحد أفراد الفريق.وهذا المشاهد المشجع يعود طفلاً مجنوناً بفرحه لحظة الفوز وحزيناً منكسراً ببكائه لحظة الخسارة، فضلاً عن كونه صغيراً أو كبيراً، عالماً أو جاهلاً، رجل سياسة أو سائق تاكسي، امرأة أو رجلا، لذا تبدو كرة القدم وكأنها ساحرة، لا يمكن سبر غورها!كرة القدم متغيرة كأي شأن في الحياة، وهي في تغيّرها تتلون بألوان اللحظة الإنسانية العابرة، وواحدة من أوجه التغيّر التي تشهدها مباريات كأس العالم الحالية، هي تقنية "حكم الفيديو-The Video Assistant Referee system"، إلى جانب أمور كثيرة كتواصل طاقم التحكيم مع بعضهم البعض، والشاشات الكبيرة في الملاعب، وتقنيات الإخراج المتعدد الزوايا. لكن واحدة من أكثر الأمور اللافتة في هذه الدورة بنظري هو الجمهور. نحن في منطقة الشرق الأوسط، وأقصد أوطاننا العربية، نعيش ومنذ مطلع القرن الماضي حروب الحياة، على مستوى الأنظمة أولاً، وانعكاس ذلك على مستوى الشعوب ثانياً. وليس أوضح من نتائج الحروب الدموية البائسة التي عاشتها وتعيشها شعوبنا، والتي راح ضحيتها ملايين البشر، دون ذنب سوى قدرهم بوجودهم على هذه الأرض. لذا فهروبنا من واقعنا المر إلى متعة بريئة هو فوز كبير بلحظة سعادة. مدرجات الملاعب الروسية مليئة بجميع أجناس البشر جاؤوا من شتى بقاع الأرض لا لشيء إلا لعشقهم لكرة القدم وتشجيع منتخبات بلدانهم. وأنا هنا أجد مسوغاً خروج شاب أو شباب في رحلة سفر يقطعون خلالها آلاف الكيلومترات للوصول إلى كراسي المدرجات، وأجد مسوّغاً بأن يحملوا لافتات، وأن يلونوا وجوههم وأن يلبسوا أزياء غريبة.أفهم هذا لكونه يتناسب ومراحل أعمارهم واندفاع دم الشباب في عروقهم. لكن أن تجد المدرجات مليئة بأجناس البشر من الرضيع إلى العجوز، فهذا أمر يستحق التوقف عنده وتأمله. أن تجد سبعينيا يجاور حفيده، وشابة تحمل رضيعها، وامرأة عجوزا وقد صبغت وجهها وجسدها. وهذا كله وهم في غيبة جنون التشجيع والفرح والسرور والبكاء. فما تراه تقدمه هذه الساحرة حتى تستحوذ على اهتمام وتعلق البشر بها؟!بعيداً عن الأسباب وراء عشق البشر لكرة القدم، ما يهم هو أن هناك أمراً قادراً على جر الناس، ومن مختلف شرائح البشر وفي كل زاوية من زوايا الأرض، إلى متعة رياضية بعيداً عن همومهم، وبعيداً عن منغصات حياتهم، وبعيداً عن الوحش الذي بات يسكن ويطلّ من خلف نظرات مجاميع كبيرة من البشر. يكفي لعبة كرة القدم فخراً أنها تقدم متعة رياضية للبشر في زمن الأسلحة الفتاكة، وفي زمن الاقتتال المجاني.
توابل - ثقافات
الفن وكرة القدم
11-07-2018