بدأت معالم كارثة إنسانية مرتقبة تتضح في جنوب سورية حيث يهرب مئات آلاف الناس من القتال المحتدم ويجدون الحدود مغلقة في وجوههم. يتنقّل هناك أكثر من 300 ألف مدني، بعضهم على الجرارات الزراعية والبعض الآخر سيراً على الأقدام، في محاولةٍ منهم للهرب من هجوم الجيش السوري المدعوم من روسيا بهدف استرجاع مدينة درعا والمنطقة المحيطة بها، حيث بدأت الثورة ضد نظام بشار الأسد منذ سبع سنوات.يهرب اللاجئون من درعا على موجتَين: نحو الشرق باتجاه الحدود الأردنية، ونحو الغرب باتجاه إسرائيل. الحدود على الجهتين مغلقة لذا يتجمّع اللاجئون في المنطقة الحدودية. يخشى الأردن الذي سبق واستقبل حوالي مليون ونصف المليون سوري أن يؤدي دخول أعداد إضافية إلى إضعاف قدرته على الصمود. أما إسرائيل، فلم تستقبل من جهتها أي لاجئين سوريين تقريباً منذ بدء الحرب. مع ذلك، يقدم البلدان بعض المساعدة للهاربين: يتحرك الأردنيون ضمن "منطقة آمنة" داخل أراضيهم، حيث تنشط أيضاً جماعات إغاثة أخرى؛ ويتحرك الإسرائيليون عبر إرسال مواد إغاثة إلى المخيمات على الحدود وعبر معالجة أعداد صغيرة من السوريين في مستشفيات إسرائيلية. تبقى هذه الخطوات أفضل من لا شيء لكنها بالكاد تكفي مقارنةً بحجم المساعدة التي يحتاجها الناس.
نتيجةً لذلك، تقبع هذه الموجة الأخيرة من النازحين السوريين الذين يبلغ عددهم 325 ألف شخص تحت الشمس ولا يملك معظمهم أي مأوى أو طعام أو ماء. ترتفع حرارة النهار بشدة وتلد النساء الهاربات أطفالهن هناك ولا يموت الأولاد بسبب جفاف أجسامهم نتيجة الإسهال فحسب بل بسبب لدغات العقارب أيضاً. قال بول دونوهو، المتحدث باسم "لجنة الإنقاذ الدولية": "هم موجودون في ظروف شبه صحراوية والأبواب مغلقة في وجوههم".تشكّل محنة السوريين الهاربين من درعا مثالاً حزيناً آخر على التردد الأميركي المتواصل في التدخل في الحرب السورية. بدأت الثورة في عام 2011، غداة إقدام أعوان الأسد على تعذيب وقتل الفتى علي حمزة الخطيب الذي كان يبلغ 13 عاماً وتم اعتقاله لأنه كتب عبارات معادية للنظام على الجدران. أقسم نظام الأسد القائم منذ 47 سنة على سحق الثوار مهما بلغ عددهم. منذ عام 2011، قُتل 400 ألف سوري على الأقل وهرب حوالي نصف السوريين من منازلهم. حين بدأت الحرب، اكتفى أوباما بتقديم دعم رمزي للثوار الذين يحاربون الأسد خوفاً من الوقوع في مستنقع شائك. فسارعت إيران وروسيا وحزب الله إلى ملء الفراغ وإنقاذ الأسد. انتقد ترامب خلال حملته الرئاسية في عام 2016 سياسة أوباما في الملف السوري، لكنه تابع تطبيق تلك السياسة بدرجة معينة منذ توليه الرئاسة.هذا ما يوصلنا إلى أحداث درعا الأخيرة، في شهر يوليو الماضي، اتفق ترامب والرئيس بوتين على وقف إطلاق النار في درعا وجوارها، وسُمّيت تلك المساحة "منطقة تخفيف التصعيد". في تلك الفترة، اعتُبر الاتفاق مؤشراً على مسار التعاون المحتمل بين الولايات المتحدة وروسيا. قال ريكس تيلرسون الذي كان حينئذٍ وزير الخارجية الأميركي: "يمكنني أن أقول إن أهدافنا بشكل عام متطابقة".في تلك المرحلة، كان جيش الأسد يُرسّخ مكاسبه في شمال البلاد وقد فعل ذلك جزئياً بفضل الهجوم الأميركي ضد "داعش". في الوقت نفسه، كان الأسد يستعد لإطلاق حملة عسكرية في منطقة الغوطة الشرقية الواسعة التي كانت تحت سيطرة الثوار في ضواحي دمشق. كان وقف إطلاق النار في مقاطعة درعا الجنوبية الوسطى يناسب حاجات الأسد في تلك الفترة على نحو مثالي. قالت لي حينئذٍ جينيفر كافاريلا، خبيرة في تحليل الشؤون السورية في "معهد دراسة الحرب" في واشنطن: "أراد السوريون ذلك الاتفاق لكسب الوقت".استرجع الأسد الغوطة الشرقية بالكامل في شهر أبريل، بمساعدة الأسلحة الكيماوية، فجعل بذلك جيشه متفرغاً للتوجه إلى درعا. حين بدأت العملية الهجومية منذ أسبوعين، قال المسؤولون الروس الذين أطلقوا دفعات من الضربات الجوية إنهم قرروا مساعدة الجيش السوري لسحق "الإرهابيين". لكن لم يذكر أحد "منطقة تخفيف التصعيد" التي اتفق عليها ترامب وبوتين منذ سنة. زادت سهولة تقدّم جيش الأسد نحو درعا أيضاً بفضل الميليشيات المدعومة من إيران. في موازاة ذلك لم يصدر أي تعليق من البيت الأبيض الذي يرأسه ترامب، لقد كانت "منطقة تخفيف التصعيد" شكلاً من الجمود المُقنّع، ورغم جميع الانتقادات التي وجّهها الرئيس ترامب لسلفه، إلا أنه أوضح بكل صراحة عدم استعداده للتدخل في سورية، حتى لو عنى ذلك إعطاء بوتين فرصة إظهاره بصورة الزعيم الضعيف والمثير للشفقة. هذا الأسبوع، عبّرت هيذر ناويرت، المتحدثة باسم وزارة الخارجية، عن الوضع قائلة: "نحن نتابع المحادثات مع الروس ونتابع المحادثات مع الأردنيين ونعبّر عن قلقنا الشديد من الوضع هناك"، غير أن المحللة كافاريلا تكلمت بأسلوب مباشر، فقالت: "لم يكن أحد ينوي تنفيذ الاتفاق أصلاً". يوم الجمعة، وصلت القوات السورية إلى مركز نصيب الحدودي، ما سمح لها بالسيطرة على واحدة من أبرز الطرق السريعة بين دمشق والأردن.منذ عام 2011، شكّلت السياسة الخارجية الأميركية في الملف السوري نموذجاً كلاسيكياً لدروس الواقعية السياسية، عبر التمسك بوضع المراوحة، والأهم من كل شيء، الاكتفاء باستعمال القوة لإبداء المصالح الشخصية. في عهدَي أوباما وترامب معاً، طبّقت الولايات المتحدة تلك المبادئ بحذافيرها، فلم تجازف بشيء ولم تخسر شيئاً. لكن الواقعية السياسية تترافق أيضاً مع كلفة معيّنة، حتى لو كنا نعجز عن احتسابها بدقة على مستوى السلطة والمصالح الشخصية، إذ تُذكّرنا هذه الكارثة الناشئة في درعا بحجم الكلفة التي دفعتها الولايات المتحدة.
دوليات
الهجوم السوري المدعوم من روسيا يعرض ترامب للسخرية!
14-07-2018