بعض الكتب أحتفظ بها خارج الرفوف، أضعها في متناول يدي، وأقول إنها كتب "حكمة". كتب أستجير بها وقت الحاجة، وحاجة القارئ لا تتوقف. كتب الرفوف تُعمِّق درايتي بالنفس، وبالعالم من حولي، وبالكون حول العالم. وثمة متعة في هذا المسعى. إنها شجرة أخصبتها تربة الخبرة البشرية عبر الزمان. وثمرتها تُضفي على الدراية متعة. لكن كتب "الحكمة" لا تغذي العقل بالمعلومة أو الدراية، ولا الذائقة بالمتعة، بل هي تنفرد بالبصيرة، وتعانق البديهة، وتحقق الإجابة الصائبة للسؤال: "لماذا أكتب؟" و"لماذا أقرأ؟"، بل "لماذا أسعى إلى المعلومة، وإلى المعرفة؟". هذه الأسئلة، التي طالما سعى الإنسان الكاتب والإنسان القارئ إلى تحريف تطلعها إلى الحقيقة، تعود إلى كتب الحكمة، لتقع على الإجابة. لذلك، عادة ما تكون هذه الكتب ثانوية عن تعمد، ومهملة عن قصد. الكُتاب والقراء يريدون من الكِتاب أن يكون على مستويات عدة من فاعلية "الذات"، في حدود ما تربح وتخسر، داخل دورة الزمان. يريدون دراما داخل حلبة الربح والخسارة، والانتصار والهزيمة. لأن الكتب بذلك تغذي "الذات" لدى الكاتب والقارئ، بالتعالي، المتعين بالشهرة والمجد. وبهذا المعنى يُخذل الجانب الأخلاقي، الذي هو جوهر كل فاعلية. الجوهر الأخلاقي الذي يريد أن يحقق أدنى قدر من "المسرة المتعافية" للكائن، العارف بمدى الشوط الوجيز لحياته، وبمدى اللغز الذي ينتهي إليه بموته. و"المسرة المتعافية" تكاد تكون محجوبة بشوائب المسرات الرخيصة، التي يشيعها الكُتاب والقراء، منذ القدم حتى اليوم. لذلك، كم تبدو هذه المسرات الرخيصة خطيرة، وإيهامية، وتخريبية.
منذ الخمسينيات ونحن نسمع دور النشر تهتف: مبيعاتنا رهنٌ بسوق الكتب في العراق. الناس تقرأ في العراق، منذ الخمسينيات. ونحن العراقيين نفخر بذلك. لكن أحدنا يحتاج إلى أن يرتقي التل ويبتعد عن المشهد، ليرى بوضوح ما الذي فعلته الكتب بنا، جيلاً بعد جيل. كل الناس والاعلام يتحدث عن عنف الثورات لدينا، ودموية الديكتاتور، وضمائر الساسة الفالتة من عقالها باتجاه السرقة والفساد، وطوابير القتَلة والقتلى تملأ أفق تاريخنا المعاصر، والجميع يرفع سبابته بالاتهام مشيراً إلى ساسة السلطة، وكأن هؤلاء جاؤوا من قمقم علاء الدين. هؤلاء لم يخرجوا من الكتب جميعاً، بل تعود جذورهم إلى الكتب. إلى أهواء المفكرين والشعراء وكتاب الأدب القابعين في كتب الصراع من أجل التفوق. كتب حلبة الربح والخسارة، حيث تُعدم روح "الحكمة" ببالغ الاحتقار. ما من شيء أكثر خطراً من كتابة وقراءة الكتب دون هدف أخلاقي بالغ النبل. "أن تكون فيلسوفاً"، يقول الأميركي ثورو صاحب كتاب Walden; or, Life in the Woods، "لا يعني أن تكون لديك أفكار حاذقة، ولا حتى أن تؤسس مدرسة؛ بل أن تحب الحكمة بحيث تحيا وفقاً لإملاءاتها، حياة بساطة واستقلال وسماحة وصدق. أن تكون فيلسوفاً هو أن تحل بعض مشكلات الحياة، لا حلاً نظرياً فقط، بل عملياً أيضاً". إنه كاتب حكمة، وتأثيره لم يتجاوز غاندي، وتولستوي.حفنة كتب تُقيم معي لا على الرفوف. كتب استقرت معي في وعيي، عبر قراءاتي المحدودة، ولابد أن هناك مثيلات لها لم أطلع عليها، أو نسيتها، يمكن أن أسمي منها: "التأملات" للإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس، "عزاء الفلسفة" للروماني بويثيوس، "حوار مع ﮔوته" للألماني أكِرمان، "حياة دكتور جونسون" للإنكليزي بوزويل، وشعر أبي العلاء. هؤلاء لم يقتصر عطاؤهم على المعرفة والمتعة، بل تجاوز ذلك إلى ما هو أهم لدي، أعني الانتقالة من البصر إلى البصيرة، من الانفعال إلى العقل، من ردود الفعل إلى الفعل، من سطوة الماضي وسطوة المستقبل إلى الانفراد بلحظة الحاضر، من نقد الآخر إلى نقد الذات، من النظر وسط الزحام إلى النظر من البرج العاجي...آمل أن يتسنى لي الوقت لعرض بعض هذه الكتب.
توابل - ثقافات
كتب تنفرد بـ «البصيرة»
15-07-2018