على شط العرب في مدينة البصرة هناك منطقة تدعى البراضعية تطل على الشط، وهي للأثرياء، وليس ببعيد عنها أقام الحاكم السابق قصراً داخله جسران، إلا أنه لم يزره إطلاقاً. بعد السقوط في 2003 اتخذت بعض وحدات القوات البريطانية من ذلك القصر مقراً لها.

في المقابل، وعلى مسافات متباعدة ومتكررة، كما هي آلام البصرة المتكررة، تقع مناطق "الخمسة ميل والجمهورية والحيانية"، وهي مناطق مخصصة للفقراء و"طايحين الحظ"، كما يقول صديقي البصراوي أبونواف. شريط الفقر يحيط بالمدينة كإحاطة السوار بالمعصم.

Ad

انطلاق التظاهرات في البصرة والمناطق الجنوبية من النجف إلى الناصرية إلى العمارة والمثنى والحلة، وإن كانت البصرة - كما هي العادة - تبدأ الشرارة الأولى بها، لم يكن غريباً، بل كان عدم انطلاقها مستغرباً.

بالمقاييس السياسية والاقتصادية الممكنة، فإن العراق يعد من أغنى دول العالم، موقعاً وحجماً وموارد وسكاناً وتنوعاً، فلم يكن مستغرباً كون هذه الرقعة الجغرافية مهداً للحضارات؛ سواء أطلقنا عليها العراق كما يعرف اليوم، بعد تفاهمات بريطانية - فرنسية عقب الحرب العالمية الأولى، أو أي اسم آخر، فالمنطقة مليئة بالتسميات والأديان واللغات والثقافات، تنوع لا تنوع بعده.

تكالبت على العراق القيادات السياسية الركيكة أو الفاسدة أو المغامرة، وسحبت الجسد العراقي على الشوك واستنزفت ثرواته وأحالته إلى بلد فقير. يقول الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب "وفي العراق جوع… ما مر عام والعراق ليس فيه جوع". وللسياب حكاية سنعود إليها في مقالة لاحقة.

نزور العراق كغالبية جيل الخمسينيات منذ أن كنا أطفالاً، واستمرت الزيارات مع تقدم العمر، لم تكن تعجبني الأنظمة المتعاقبة لقسوتها وانفرادها بالسلطة وتصفية خصومها، ولكن البشر والأصدقاء والتنوع والثقافة والنخيل ودجلة والفرات والعمق التاريخي الحضاري لي معهم علاقة مريحة.

وأثناء الغزو سنة 1990 زرت العراق مرات كثيرة هذه المرة بشكل مختلف، حين نظمنا زيارات أهالي الأسرى في معتقلات بعقوبة وموصل وتكريت والرمادي، ثم لاحقاً حين تم أسرنا وإيداعنا في سجن بوصخير بشمال البصرة.

كانت الخدمات حين ذلك - قبل فرض أي حصار - في حالة سيئة بالمناطق الجنوبية والبصرة تحديداً، وبالذات في الماء والكهرباء والصرف الصحي. تحررت الكويت وعدنا إلى بلادنا واستمر الإهمال الكامل للمناطق الجنوبية.

وبعد سقوط النظام السابق بغزو أميركي، زرت العراق عشرات المرات في مهمات إنسانية، بدءاً مع الهلال الأحمر الكويتي، ثم مع منظمة العفو الدولية لمراقبة ورصد القوات الغازية ومدى التزامها بالقانون الدولي الإنساني، أو بدعوات متكررة من الأمم المتحدة. ترتب على ذلك زيارات لكل أطراف العراق من شمالها إلى جنوبها.

مهماتنا كانت إنسانية دفاعاً عن المدنيين، وكانت تتطلب دقة ومتابعة للسجون ومواقع الألم المنتشرة في الجنوب من سوق الشيوخ إلى كوت الزين إلى أبو الخصيب وغيرها. أما الأم البصرة، التي كنت أتوقع لها أن تكون قد تغيرت بعض الشيء عن التسعينيات وقبل التسعينيات، فظلت في حالة يرثى لها، وبالذات مرة أخرى في الماء والكهرباء والصرف الصحي.

كان يقال دائماً إن إهمال السلطة العراقية السابقة للجنوب ينطلق من منطلقات طائفية، ربما. فإن كان الأمر كذلك، فماذا جرى للجنوب بعد أن تغيرت السلطة؟ بعد 15 سنة من ذهاب تلك السلطة البائسة، لايزال الإهمال للجنوب سائداً، ولكنه هذه المرة بطعم أكثر مرارة.

وللحديث بقية.