الدعاية الروسية
كانت هناك مكتبة صغيرة تقع مقابل سينما الأندلس في حولي، وسينما الأندلس قبل هدمها، لمن لا يتذكرها أو يعرفها، هي دار الأوبرا بالنسبة إلينا حينئذ. في تلك المكتبة الصغيرة تعرفنا، نحن جيل الثمانينيات، على عمالقة الأدب الروسي، ومازلت أتذكر الكتاب الأول منها: "بطل من هذا الزمان" لليرمونتوف. بعد ذلك قدمت لنا الدار روائع بوشكين، تشيخوف، رحمت فيضي، جنكيز إيتماتوف والعظيم ديستويفسكي، وهذه الكتب كانت ترجمات مباشرة عن الروسية، بعد أن كانت الأعمال الروسية تترجم عن الفرنسية والإنكليزية، وتتبرع دار رادوغا بالتقدم بنشرها بأسعار زهيدة مقارنة بسوق الكتب. وحدث أن تمكنت منا هذه الكتب بالتعرف على الاتحاد السوفييتي ومقارنته بالقطب الآخر الأميركي لننقسم فيما بيننا إلى طرفين نكيل لبعضنا الاتهامات، أقلها كان "أنتم ملاحدة" و"أنتم إمبرياليون".شخصياً كنت أفضل الثقافة الروسية، والعيش في أميركا، ذلك يجعلني بلا موقف حقيقي. قبل الثمانينيات كان الطرفان، بالنسبة إلى كثير منا، يتساويان في العداء لنا، وهما ينظران لأمن إسرائيل كخط أحمر لا يمكن تجاوزه. ذلك يعني باختصار أننا لن ننتصر مادام السلاح سلعة هذين الطرفين التي نستهلكها، وصعوبة أن نصنع سلاحنا بأنفسنا. خلال الثمانينيات دخلت روسيا مواجهة مع الأفغان والعرب الأفغان، وتم تصوير روسيا نمطياً بالبلد المخيف يمتنع الجميع عن زيارته أو الدراسة فيه عدا الدول العربية، التي ارتبطت معه عسكرياً، ولكن هذه الصورة انتشرت غربياً أيضاً حتى بعد تفككه.
اليوم ترى روسيا في كرة القدم، والتي بلا شك، نجحت كثيراً في تنظيمها وإنجاحها جماهيرياً، وقدمت لها الدعاية اللازمة، ترى فيها سبيلاً لتحسين صورتها النمطية أو تغييرها كلياً، وربما هي تدرس منذ الآن حسابات ما بعد المونديال. وما يهمنا عربياً هو النظر إلى روسيا التي أسقطت قنابلها على الشعب السوري منذ اندلاع الثورة حتى اليوم. روسيا التي ساهمت مع النظام السوري في شيطنة الثورة، وتحويلها من ثورة شعب إلى ثورة إرهابيين ودواعش. في هذه الحرب لم تتدخل أميركا ضدها، ولم تمنح خصومها "ستينغر" للإيقاع بها في مستنقع سوري، كما حدث في أفغانستان.لا يهم! سنعود إلى موضوعنا الرئيسي، وهو تلك المكتبة الصغيرة التي تبيع مطبوعات رادوغا بأسعار زهيدة لنشر الثقافة الروسية. يبدو أن ذلك الطريق طويل وتأثيره بطيء ويحتاج إلى شعب قارئ تفتنه الرواية الروسية، وتشجعه على الاندماج في الثقافة الروسية والتعاطف مع روسيا. وبالفعل فشلت المكتبة ولم تجد رواداً يقبلون على كتبها، فأعلنت إفلاسها وكانت فرصة أن نشتري نحن، المهتمين، كتبها بالجملة، وبأسعار مضحكة. هذا العمل الثقافي عمل مضنٍ استغرق سنوات من الترجمة والطباعة والشحن، ولكنه لم يفعل ما فعلته كرة القدم في أسابيع قليلة. أيام فقط جعلت العالم، كل العالم، يزور موسكو ومدن روسيا الأخرى، فتحتشد الملاعب بالملايين خلال أسابيع، ويتسمر ملايين أمام الشاشات لتتحقق لروسيا دعاية ضخمة فشلت في تحقيقها دور نشر ثقافية عملت عدة سنوات. ستعيد روسيا ودول أخرى حساباتها في التسويق، فالشعوب تعرف عشرات اللاعبين من البرازيل ولا تعرف روائياً واحداً من هناك.