ثراء لبنان وغناه
![خالد حسين الشطي](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1601702803957573600/1601702820000/1280x960.jpg)
هذا التنوع في الطبيعة، يحمل تنوعا في الهوية السياسية، يستمد من تنوع في المدارس والمناهج، كما في المذاهب والوظائف... مجموع يوجه رسالة لا تملك إلا احترامها والانحناء إجلالا وإكبارا لها... فهو الذي أفسح للتعددية العنان للتنافس في كسب الحقوق وتحقيق الحرية والعدالة والمساواة، وكل ما تطمح إليه الشعوب العربية وتحمله من شعارات لم يكن لها حظ في التنفيذ والتطبيق. لا أحد يدعي أن المعادلة الطائفية في لبنان تمثل حالة نموذجية، وصورة مثالية حققها هذا الشعب والبلد، لكنها مرحلة عملية وجادة في بناء الدولة المدنية، وطور ضروري في طريق الخلاص من العصبيات التي تحكم ساحاتنا على جميع الدول أن تدرسها وتستلهم من إيجابياتها، ولاسيما أن أغلب إن لم يكن جميع البلاد العربية والإسلامية فيها أقليات اثنية ودينية مضطهدة، وفي أقل التقديرات، منقوصة الحقوق ومهمشة.التنوع في لبنان أفرز التعددية كمعادلة قوية، وعنصرا لا يمكن إلغاؤه ولا إهماله، مما خلق نطاقات الحرية ومكن كل طائفة وفئة من كسب حقوقها، كما ألزمها احترام الآخرين... هكذا أبدع اللبنانيون وقدموا مئات العلماء والمفكرين والموسوعيين والأدباء والشعراء، قدم المسيحيون بطرس بستاني وميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران، والشيعة الشهيد الأول والثاني والمحقق الكركي وعبدالمحسن شرف الدين، والسنّة محمد رضا وعبدالله العلايلي وصبحي الصالح... بينما كبتت "الأحادية" البلاد الأخرى وأعدمتها الحريات فأُخمدت الطاقات ووُئدت الكفاءات.مخطئ من يتهم طائفية لبنان بأنها مقيتة، وساذج من يحسب أن الحروب نشأت هنا بشكل عفوي ارتجالي، وأن لا حذر في المحيط من استنساخ الصيغة اللبنانية، ولا توجس وخوف من تكرارها في غير بلد، وغبي من لا يتلمس القلق من تطورها ونجاحها في بلوغ نموذج يرسم أفضل صور الرفاه والتطور والنماء، بعد نجاحها في العيش المشترك، وقدرتها على تجاوز عشرات الأزمات العاصفة، دون أن تهتز، ناهيك بأن تسقط.الرؤساء والزعماء الذين التقيناهم كلهم علمانيون بامتياز، لا ذقونا يرسلون ولا عمائم يعترون ولا قلانس وصلبانا يحملون، يؤمنون بالدولة المدنية ويعملون لها بجدية، ولكنهم جميعا متمسكون بحقوق أبناء طوائفهم ومذاهبهم، ولا يهمني منشأ هذا التمسك والحرص، هل هو البقاء في السلطة واستمرار الزعامة، أم الإيمان بالحرية والعدالة والمساواة في الحقوق، أم العقيدة الدينية ورجاء الأجر والثواب!النتيجة والمحصلة التي همس لي أحدهم بها، أن كل دائرة حكومية وكل "شفت" أو وردية في المطار يجب أن يشترك فيها ضباط من جميع الطوائف، فلا يخشى مواطن أن يبخس حقه أو يتعرض للإهانة بسبب مذهبه، وكل دورة ضباط في الجيش وقوى الأمن تخضع أعداد المقبولين فيها لنسب الطوائف والمذاهب، وأن محكمة الأحوال الشخصية السنية التي تضاعف عليها الضغط بسبب هجرة السوريين، لم يمكنها تعيين قضاة شرعيين جدد، إلا بتعيين عدد مماثل لهم في المحكمة الجعفرية!... استحضرت المشهد وأنا أتلقى أخبار التعيينات في النيابة العامة في بلدي، الذي يزهو بعض الأغبياء أو المنتفعين الأجراء، بأنها ليست طائفية ولا مذهبية!هذا هو السر في التهويل الإعلامي الذي يتوجه إلى أغنى بلاد الشرق الأوسط، لبنان، والحرب التي تتوجه إليه حسدا له على ثروته، وأغرب ما في ذلك أنهم لا يريدون نهب ثروته (التنوع والتعددية، والمساواة والحرية)، بل يريدون تدميرها، فإن لم يمكنهم ذلك فتلويثها وتشويهها.