ما كان هنالك من مفر من هذه النتيجة، فمهما فعل ترامب خلال رحلته، كانت أوروبا ستثور، وتبين أنه قام بالكثير، فأدلى بمقابلات غير مترابطة، وأساء إلى مضيفيه، وسرد أكاذيبه المعتادة، ولعب بالتأكيد الغولف في أحد منتجعاته التي يروّج لها بقوة.يبدو أن واقع أن جميع القادة الأوروبيين، من رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي إلى الرئيس الفرنسي ماكرون، يختلفون مع ترامب في بعض المسائل الأساسية، مما يعود عليه بالفائدة في تعاطيه مع قاعدته ولا يسيء إليهم، ويعتبر داعمو ترامب أنه مختلف "عنهم"، أي عن النخبة العالمية، ويثبت لهم ذلك أن ترامب يضع "الولايات المتحدة أولاً" ولا يأبه بما تظنه الدول الأخرى.
صحيح أن عزلة ترامب قد تستميل قاعدته الشعبية الضيقة نسبياً، إلا أن انتقاده حلفاءه في حلف شمال الأطلسي (الناتو) يحرّك وتراً أكبر بكثير، فهناك قليلون يشاطرون ترامب رأيه عن أن الناتو مجموعة حماية فوضوية مافيوية، غير أن أميركيين كثراً، بمن فيهم خبراء في شؤون السياسة الخارجية، مستاؤون من ميزانيات الدفاع المتدنية التي يخصصها عدد كبير من الدول الأعضاء الأوروبية. بالإضافة إلى ذلك، لطالما نظر الجمهوريون إلى الناتو نظرة أكثر سلبية، مقارنةً بالديمقراطيين، فقد تبين السنة الماضية أن أقلية من الجمهوريين (47%) تنظر إيجاباً إلى هذه المنظمة.لكن الاستياء لا يقتصر على الجمهوريين، لطالما اشتكى أوباما من "الاستغلاليين" في هذا الائتلاف عبر الأطلسي. ومع أن زيادة المساهمات الأخيرة تعود إلى ما قبل رئاسة ترامب، ومع أن الجدال ما زال محتدماً بشأن ما تعهدت به الدول الأعضاء في الناتو منفردة خلال القمة، يدّعي ترامب أنه حقق النجاح، حتى إنه يحظى بمهللين داخل الأوساط الليبرالية المتشددة، مثل صحيفة نيويورك تايمز التي كتبت في إحدى مقالاتها الافتتاحية: "ترامب حصل من الناتو على كل ما طالب به أوباما".لكن السبب الرئيس، الذي يوضح لمَ لن تنعكس زيارة ترامب إلى أوروبا هذه سلباً على شعبيته، يبقى واقع أن الأميركيين لا يكترثون كثيراً بالسياسة الخارجية، فعلى غرار رئيسهم، لا يعرفون الكثير عن سائر العالم، ولا يأبهون به أيضاً. كذلك أثبتت الدراسات المتتالية أن المرشحين الرئاسيين يمضون الكثير من وقتهم في التحدث عن السياسة الخارجية، بيد أن الأميركيين يحددون سلوكهم الانتخابي مستندين (حصراً) إلى المسائل المحلية.برهن الأسبوع الماضي مرة أخرى أن أوروبا لا تفهم ترامب ولا الولايات المتحدة، إذ يرى الأوروبيون في ترامب حالة شاذة ويعتقدون أن سياساته لا تتجاهل أولياتهم وقيمهم فحسب، بل أولويات وقيم غالبية الأميركيين أيضاً، كذلك يشعرون أنهم يستمدون القوة من نخب السياسة الخارجية الأميركية، التي رسمت طوال عقود السياسات من دون أن يكون للشعب دور كبير في تحديدها أو التدقيق فيها، ومن الأمثلة الجيدة على ذلك روبرت كاغان، الذي ندد أخيراً في سلسلة من الأعمدة في صحيفة "واشنطن بوست" بتراجع "نظام العالم الليبرالي". وفيما راح الليبراليون يعيدون تغريد أعمدته بحماسة، كان حرياً بهم أن يتذكروا أن كاغان كان أحد المحافظين الجدد البارزين الذين وقفوا وراء سياسة إدارة جورج بوش الابن الخارجية، التي تجاهلت طوال ثماني سنوات النظام العالمي الليبرالي ذاته وقوضته، داعمةً عقيدة أخرى تضع الولايات المتحدة أولاً.لا شك أن ترامب قائد سياسي ورئيس أميركي مختلف، فأسلوبه فريد، إلا أنه يقول بكل بساطة بصوت عالٍ وبطريقة فظة ما يفكّر فيه أميركيون كثر، بمن فيهم النخب السياسية، في المجالس الخاصة. لطالما كانت عبارة "الولايات المتحدة أولاً" شعار السياسة الخارجية الأميركية، مع أن الرؤساء السابقين ظنوا أن من الأفضل تحقيق ذلك من خلال نظام عالمي ليبرالي (تسيطر عليه الولايات المتحدة). وكلما أسرع الأوروبيون في تقبل هذا الواقع وبدؤوا يخططون لمستقبل من دون الهيمنة الأميركية، سارت الأحوال نحو الأفضل.*«الغارديان»
مقالات
قمة حلف شمال الأطلسي تبرهن على إخفاق أوروبا في فهم ترامب
19-07-2018