في السادس عشر من شهر يوليو الحالي تم إطلاق سراح المدعو جامل بيغال من سجن «رين فيزين» الواقع في غربي فرنسا، وبيغال ذائع الصيت في الاوساط الجهادية الأوروبية. ولد بيغال في الجزائر عام 1965، واستقرّ في فرنسا عام 1987. بعد عشر سنوات انتقل مع زوجته الفرنسية وأولاده الى المملكة البريطانية. وفي نوفمبر 2000، انتقلت العائلة الى أفغانستان التي كانت تديرها طالبان آنذاك. وفي يوليو من عام 2001 ألقي القبض على بيغال في الامارات العربية المتحدة ليتمّ ترحيله بعد فترة الى فرنسا. كان بيغال مشتبهاً في تخطيطه لعملية إرهابية ضد السفارة الاميركية في باريس. في عام 2005 تم إصدار حكم عليه بقضاء عشر سنوات في السجن، وسرعان ما تم إطلاق سراحه في عام 2009 ليعود الى السجن بعد سنة واحدة لتورطه في قضية أخرى. التقى بيغال في السجن بسجناء آخرين، بعضهم كان محبوساً بتهم تتعلق بالارهاب، ويقال إنه تحوّل مرشداً أساسياً لبعض السجناء على غرار شريف كواشي وأحمد كوليبالي، وهما اللذان نفّذا اعتداءات باريس المشهورة في يناير 2015. وقبل أشهر قليلة حذّرت السلطات الجزائرية من أنها سترفض رفضاً قاطعاً ترحيل بيغال الى الجزائر بعد تحريره. وبعد مفاوضات دبلوماسية حثيثة تغيّر موقف الجزائر، لتتنفّس باريس الصعداء. ولو لم تغير الجزائر في موقفها هذا لكان بيغال بقي قيد التوقيف داخل الاراضي الفرنسية.
لغز الأصولية
ليس بيغال إلا الجزء الظاهر من الجبل الجليدي للإرهاب، فثمة 500 سجين في السجون الفرنسية تم إصدار أحكام مختلفة بحقهم أو ينتظرون الحكم في قضايا إرهابية. يضاف الى هذا العدد 1200 سجين، تم إلقاؤهم في الحبس لتهمٍ أخرى ويُعتبر هؤلاء من الراديكاليين المتطرّفين. وقبل نهاية عام 2019 سيتمّ إطلاق حوالي 50 شخصاً متهماً بالارهاب و450 راديكالياً. معظم هؤلاء من المواطنين الفرنسيين ولا يمكن إذن ترحيلهم نحو بلدانٍ أخرى. وقد ركّزت دراسة أجراها حديثاً المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية على عينة من 137 جهادياً، 91 في المئة منهم فرنسيون و22 في المئة فحسب منهم يحمل جنسيةً مزدوجة، بات الارهاب الفرنسي المنشأ إذن أمراً اعتيادياً. وما زالت الاسباب المشجعة على التطرّف لدى تلك الاوساط مجهولة وغير واضحة، وقد تم نشر عشرات الكتب والمقالات عالمياً حول العناصر التي قد تحثّ أفراداً من الشباب للانضمام الى مجموعات ارهابية تبث الذعر في العالم، وتدور في فرنسا نقاشات حادة بين الاختصاصيين حول ظاهرة الارهاب نفسها. وثمة مواجهة فعلية بين بروفيسورين حول هذا الموضوع هما جيل كيبيل وأوليفيه روا ويمكن اختصار المواجهة بالشعار التالي: راديكالية الاسلام مقابل أسلمة الراديكالية، ويعتبر كيبيل أنّ نمو السلفية يشكل أرضيةً خصبة للجهادية بينما يعزو روي الاسباب الى العناصر الاقتصادية والاجتماعية التي يجدها أكثر أهمية من الدين في عملية إنشاء الفكر الراديكالي. ويشدد كتاب آخرون على عناصر مختلفة تؤدي الى نشوء الراديكالية فالمفكر فرنسوا بورغا مثلاً يعتمد مقاربةً تفيد بأنّ الجهادية ردة فعل للتدخل الغربي في البلدان المسلمة، فيما يعتبر المفكر فرهاد خوسروخافار أن الجهادية طريقة للانتقام الاجتماعي من تهميش الشباب المسلمين. أما دنيا بوزار فتعتبر داعش أداة مسننة لاستهداف الافراد الضعفاء، فيما يسلط فتحي بن سلامة الضوء على أهمية الدينامية النفسية، ويظهر ديفيد طومسون انّ بعض الجهاديين يعتبرون أنّ تجربتهم رومانسية ومسلية... إلخ.نقاش حاد
وما زال مفهوم الراديكالية موضوع نقاش حاد الى اليوم عالمياً ومن غير المستغرب اذن عدم التوصل الى حلول لتخفيف معضلة التطرّف الراديكالي. وفي سبتمبر من عام 2016 افتتحت فرنسا أول مركز لها لتأهيل الراديكاليين، وكان من المفترض أن يضمّ 25 شخصاً راديكالياً، يتابعهم عن كثب فريق من الاختصاصيين (أطباء نفسيين، اختصاصيين في الحالات الخاصة، عاملين اجتماعيون، وأئمة). ولكن البرنامج ما كان يستهدف أشخاصاً تمّ الحكم عليهم بالارهاب، بل كان قائماً على الانضمام الطوعي. وزار سيناتوران المركز في فبراير 2017، وفي تلك الفترة كان عدد الموظفين 27 موظفاً مقابل راديكالي واحد، وبعد تقرير السيناتور السلبي تم إغلاق المركز في يوليو من عام 2017. وتمّ اختبار برنامج آخر يحمل اسم RIVE (الأبحاث وتقنيات التدخل في العنف الراديكالي) لسنة ونصف السنة، وهو برنامج قسري ومخصص للأفراد المتورّطين في القضايا الارهابية. وتعتمد المقاربة على الارشاد الفردي، وبالتالي لا يمكن توفير الارشاد هذا الا لمجموعة مكوّنة من 12 شخصاً في الوقت عينه. ويبدو أن النتائج الاولية ايجابية للغاية، مما شجّع الحكومة الفرنسية على انشاء ثلاثة برامج إضافية مشابهة. وتم الاعلان عن هذه الخطة في فبراير 2018 ضمن الخطة الوطنية للوقاية من الراديكالية. والمثير للاهتمام هنا هو تغيير مفردة «إزالة الراديكالية» لاعتماد مفردة «فك الارتباط» بديلاً لها. ويظهر هذا التغيير أنّ هدف الحكومة الفرنسية لم يعد تغيير ما يدور في ذهن الراديكاليين، بل التأكّد من فك ارتباطهم بالمجموعات العنيفة والالتزام بالقانون. فكّ الارتباط هذا مهمّة متواضعة بالمقارنة مع مهمة إزالة الراديكالية واجتثاثها، ولكنها ليست مهمةً سهلة بالضرورة، فمن الصعب جداً معرفة ما إذا كان الشخص قد فكّ ارتباطه فعلاً أم أنه يتظاهر بذلك مثلاً وليس إلا. فقد يلجأ بعض الافراد الى الكذب والمراوغة بهذا الشأن بحيث يخفي نواياه الحقيقية لأغراض تظهر الى العلن لاحقاً، وليست مسألة معاودة اللجوء الى الارهاب مسألة نظرية فحسب، فثمة أدلة كثيرة على أفراد تمّ إطلاق سراحهم ليعودوا الى تنفيذ عمليات ارهابية بعد حين. شريف كواشي مثلاً تم اعتقاله، عام 2005 وأمضى أقل من سنتين في السجن بعدما صدر بحقه حكم قضائي بتهمة الارهاب. وبعد عقدٍ من الزمن، عاد الى عاداته الارهابية الاجرامية، فنفّذ مع أخيه عملية إطلاق النار التي استهدفت رسامي الكاريكاتير في مجلة تشارلي إيبدو الفرنسية الساخرة، ومن يدري فقد يكون الـ»كواشي» المقبل قابعاً الآن في السجون الفرنسية منتظراً إطلاق سراحه لسفك مزيد من الدماء! ● مارك هاكير