المبدأ هو كيفية اضطرار رئيس إلى العمل في ميدان السياسة الخارجية في ضوء الواقع الذي يحيط به، ففي بعض الأوقات يطرح الرؤساء مبادئهم المتعلقة بالسياسة الخارجية، وفي أوقات أخرى يرى مراقبون نموذجاً متماسكاً في السياسة الخارجية للرئيس ويرسمون مبدأ أو عقيدة له، وفي الحالتين يتعين ألا تشاهد المبادئ على شكل خطوات عبقرية أو قرارات اتخذت وفقاً لإرادة رئيس فقط، بل كتصرفات فرضت عليه وأملتها الوقائع.وقد تم تحديد مبدأ الرئيس الأميركي هاري ترومان في عام 1948، وفي ضوء التهديد السوفياتي إلى كل من تركيا واليونان أعلن الرئيس الأميركي هاري ترومان– على شكل مبدأ عام– أنه ملتزم بدعم الدول الحرة في وجه الشيوعية، ولم تكن الولايات المتحدة قادرة على قبول أوروبا خاضعة للهيمنة السوفياتية نظراً لما يمثله ذلك من خطر طويل الأجل، ونظراً لأن الولايات المتحدة كانت تفتقر الى القدرة على شن حرب تقليدية ضد الاتحاد السوفياتي فقد اضطرت الى اتباع ما يعرف باسم استراتيجية الاحتواء.
تركيا، بشكل خاص، كانت تمثل حلقة لا يمكن الاستغناء عنها بالنسبة الى هذه الاستراتيجية لأن البوسفور يمنع وصول القوات السوفياتية الى البحر الأبيض المتوسط، ولذلك كان على الولايات المتحدة الدفاع عن الموانئ التركية واليونانية ومن هذا المنطلق فقد فرضت الضرورة ذلك المبدأ.من جهة أخرى تأسس مبدأ نيكسون في سنة 1969 عندما أعلن الرئيس ريتشارد نيكسون أن الولايات المتحدة ستقدم دعماً وحماية الى حلفائها مع ضرورة قيام أولئك الحلفاء بالاعتماد بشكل مبدئي على مواردهم الخاصة من أجل ضمان أمنهم، ونظراً لأن الولايات المتحدة كانت متورطة في الحرب الفيتنامية فقد كان توافر قوات أميركية للدفاع عن الحلفاء محدوداً إلا في ظروف وأوضاع حادة للغاية. وتجدر الإشارة إلى أن الرئيس الأميركي باراك أوباما لم يضع مبدأ لنفسه، ولكن مراقبين استنتجوا من تصرفاته سياسة متماسكة ومترابطة بصورة منطقية من أجل خفض التورط العسكري الأميركي في الشرق الأوسط وتقليص العداوة بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي، كما بدا الحد من الطموحات الأميركية هناك ضرورة أساسية.
اتساق تفرضه الضرورة
تمثل كل مبادئ الرؤساء غاية متساوقة تفرضها الضرورة، ولكن هذا لا يعني أن الرئيس سيتمكن من تحقيق النجاح في تطبيق المبدأ، وقد نجح الرئيس ترومان فيما لم يختبر نيكسون ذلك المبدأ حيث تستدعي الضرورة بشكل أكبر، في أوروبا وشرق آسيا، أما مبدأ أوباما فقد واجه احتكاكاً وجموداً منذ إطلاقه، وتتعرض بعض المبادئ إلى انتقادات في داخل البلاد وخارجها. وعلى سبيل المثال فقد اعتبر مبدأ ترومان على صعيد داخلي بأنه يتحمل الكثير من مسؤولية أمن حلفاء الولايات المتحدة فيما تعرض مبدأ نيكسون الى انتقادات تمحورت حول الضعف من جهة ومحاولة إخفاء التخبط في الحرب الفيتنامية من جهة أخرى، وكانت سياسة أوباما الخارجية تعرضت الى انتقادات في الداخل الأميركي بسبب ما وصف بالإذعان إلى العالم الإسلامي كما انتقدته دول أجنبية على اعتبار أنه كان متعصباً ويفتقر الى استراتيجية تتعلق بحلفاء من ذوي الأهمية بالنسبة الى الولايات المتحدة.درجة من العشوائية
وفيما تقرر الضرورة الخارجية المبادىء فإن ذلك لا يعني أن كل تصرفات وخطوات الرؤساء مدفوعة بالضرورة بالظروف والأوضاع السياسية المجردة، وتوجد درجة من العشوائية في كل الأعمال التي لا تقتصر على إجراءات الرئيس فقط. وعلى أي حال فإن ذلك يعني أن الاندفاعة الرئيسة في سياسة الرئيس تقررها الظروف التي تحيط به في ذلك الوقت.وضمن هذه الخلفية أريد أن أطرح أجندة ترامب بالنسبة الى السياسة الخارجية، ويمكن إيجاز مبدأ ترامب على شكل سياسة تهدف الى نزع فتيل أزمات يمكن أن تتطلب عملاً عسكرياً مع العمل بدلاً من ذلك على تحقيق مشاركة اقتصادية هجومية وتجاهل أي آراء من الخارج. ومثل مبادئ الرؤساء السابقين فقد أملت الظروف التي تواجه الولايات المتحدة ما تضمنه مبدأ ترامب، ولدى الولايات المتحدة قوات عسكرية منتشرة على نطاق واسع وهي مشاركة في عمليات قتالية في الشرق الأوسط كما تم نشرها في بولندا ورومانيا من أجل مواجهة أي خطوات محتملة من جانب روسيا، وإضافة الى ذلك تشارك البحرية الأميركية في عمليات غير قتالية في بحر الصين الجنوبي، وتظل القوات الأميركية على استعداد لتوجيه ضربة الى كوريا الشمالية اذا دعت الضرورة الى مثل تلك الخطوة. ومن هذا المنطلق تم نشر القدرات العسكرية الأميركية على مساحة واسعة وهو ما أفضى الى خلق مشكلة بالنسبة الى واشنطن لأن الولايات المتحدة لا تستطيع إسناد ودعم قوة قتالية ضخمة في كل تلك الميادين في الوقت ذاته. كما أن اندلاع حرب في أي ساحة سيقلص قدرة الولايات المتحدة العسكرية في ميدان آخر مما يزيد من خطر اغتنام دول أخرى لهذا الضعف، وفي ضوء احتمال انتشار الأوضاع القتالية والتوزع الواسع للقوات تصبح عملية تفادي المواجهة العسكرية ضرورة ملحة.دور الدبلوماسية
وفي هذا السياق يتمثل الرد الفعال الوحيد على هذه الأزمات في العمل الدبلوماسي، ولننظر الى الأزمة مع كوريا الشمالية، فقد كان في وسع الولايات المتحدة الرد على تطوير بيونغ يانغ للأسلحة النووية بثلاث طرق هي: خوض حرب أو تقبل ذلك الوضع أو التفاوض، وقد اختار ترامب الخيار الوحيد الممكن بالنسبة اليه وهو محاولة التوصل الى نوع من التفاهم مع كوريا الشمالية، وعندما يتعلق الأمر بروسيا كان لدى ترامب قائمة مماثلة من الخيارات: العمل العدائي أو السلبية أو الدبلوماسية. ولكن نظراً لتورط روسيا في الأزمة السورية التي تشارك الولايات المتحدة فيها اضافة الى الخطر المحتمل في أوروبا الشرقية والقوقاز كان على ترامب اللجوء الى المسار الدبلوماسي، وهو ما يفسر اجتماعه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في هلسنكي.وعند هذه النقطة، ينطوي التوجه الى الحرب على خطر، كما أن التهديد المكشوف غير مقبول أيضاً نظراً لأن نوايا خصوم الولايات المتحدة لا يمكن التنبؤ بها الى حد ما، ويتمثل الحل في الحفاظ على وجود وتفادي المعركة من خلال الدخول في مفاوضات موسعة قد تفضي الى شيء ما أو لا شيء على الإطلاق، ولكن ذلك سيخفض الخطر العسكري.الجبهة الاقتصادية
وعلى الجبهة الاقتصادية والتجارية توجد معالم مختلفة تماماً، وبالنسبة الى الولايات المتحدة تشكل الصادرات الأميركية نسبة مئوية صغيرة نسبياً من الناتج المحلي الإجمالي، كما توجد قطاعات أكثر اعتماداً من غيرها على ذلك، ولكن في الجزء الأكبر لا يعتمد الاقتصاد في الولايات المتحدة بشدة على الصادرات. وعلى أي حال تعتمد بعض الدول الأخرى على التصدير بقوة، ولا يعتبر ترامب أن نظام التجارة الحرة الذي ظهر في أعقاب الحرب العالمية الثانية يشكل ميزة لبلاده، كما أنه مقيد بمصالح دائرته الانتخابية التي صوتت له بشكل جزئي لأنه وعد باتخاذ موقف متشدد إزاء التجارة. وفي ضوء هذا الواقع الذي يقضي بالحد من المسار العسكري عند هذه النقطة تستطيع الأدوات الاقتصادية المساعدة على رسم صورة العلاقات مع دول اخرى معادية مثل الصين.وهذه السياسة المتمثلة بتطبيق الضغط الاقتصادي أفضت طبعاً الى تفاقم التوترات مع دول أخرى وخفضت من سمعة الولايات المتحدة في الخارج، وهذا ليس شيئاً جديداً، فمنذ فترة الحرب الفيتنامية وفي حقيقة الأمر منذ الحرب الكونية الثانية تعرضت الولايات المتحدة الى شجب بسبب سياساتها المختلفة، ولكن ليس من الواضح أن الرأي العام العالمي ينطوي على تأثيرات مستمرة. ولذلك فإن ترامب اختار عدم الاكتراث بالرأي العام العالمي الذي يبدو أنه مساره المفضل على أي حال، ولكنه إذا كان يحاول خفض الضغط العسكري من خلال تطبيق ضغط اقتصادي فعلينا أن نتوقع أن تفضي أعماله وتصرفاته الى إثارة عداوة تشابه على الأقل في حدتها العمليات الحربية في الماضي.استراتيجية مدفوعة بالحقائق
المبدأ ليس في حاجة الى النجاح على شكل مبدأ، وليس على الرئيس أن يكون ملماً بالتساوق والمنطق في موقفه، كما أن سياساته قد تكون مدفوعة باستراتيجية تنبع من الحقيقية والواقع، وعندما تسلم ترامب السلطة لم يكن يتوقع على الأرجح أن يلتقي الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون خلال أكثر من سنة على وصوله الى البيت الأبيض. ولكن الأحداث أرغمته على ذلك، وربما كان ترامب يريد فرض تعرفات على الصين حتى قبل تسلمه الرئاسة ولكنه انتهى الى ذلك القرار بسبب الحقيقة التي واجهته، وسواء كانت هذه الأعمال نتيجة قراره أم لا فثمة منطق في معالجة ترامب لقضايا السياسة الخارجية الأميركية.ولكن ذلك كله لا يختلف عن تصرفات رؤساء سابقين أو قادة دوليين، وهم يتسلمون السلطة بسياسات يريدون تطبيقها حقاً ثم يصدمون بحقائق ترغمهم على تجاهلها والبدء بتصرفات تكتيكية، ونظراً لتماسك العالم فإن الأعمال تصبح متماسكة ومتسقة أيضاً. ومن هذه الحقيقة يبرز المبدأ، وفي حالة ترامب يشتمل ذلك المبدأ على خفض خطر المواجهة العسكرية واستخدام الاقتصاد على شكل أداة للتأثير وتجاهل آراء الحكومات الأجنبية والرأي العام العالمي. ● جورج فريدمان