طريق أوكرانيا الواعد نحو الإصلاح
عمدت الحكومة الأوكرانية إلى تقليص حجم بيروقراطيتها، فرفعت الأجور، وحددت بوضوح صلاحيات العمل المختلفة، فصارت وزاراتها اليوم توظف عدداً مماثلاً لعدد العمال الذين توظفهم كل من ألمانيا وبولندا، كما ولت أيام الجهاز المنتفخ الميال إلى الكسل والرِّشا.
أشارت عدة تقارير إلى أن ترامب في قمة مجموعة الدول السبع الأخيرة أخبر قادة العالم الآخرين أن "أوكرانيا إحدى دول العالم الأكثر فساداً". ولا عجب في ذلك، فطوال سنوات، انتقد مسؤولو الحكومة الأميركية ونظراؤهم الأوروبيون علانية أوكرانيا بسبب الفساد المستشري فيها.صحيح أن الفساد مشكلة خطيرة، إلا أن هوس الغرب يحجب التقدّم الذي حققته أوكرانيا في هذا المجال، مقلصةً نطاق الفساد إلى حد كبير. ففي كل الأوساط تقريباً، نرى أدلة على عمليات إصلاح وتنمية ناجحة جداً في أوكرانيا. فللمرة الأولى منذ نيلها استقلالها عام 1991، تملك هذه الدولة جيشاً قادراً على الدفاع عن البلد. كذلك بدأت أوكرانيا أخيراً تطور جهاز دولة فاعل على الصعيدين الوطني والمحلي. وقد عمدت الحكومة أيضاً إلى تقليص حجم بيروقراطيتها، فرفعت الأجور، وحددت بوضوح صلاحيات العمل المختلفة. فصارت الوزارات الأوكرانية اليوم توظف العدد ذاته تقريباً من العمال المدنيين الذين توظفهم كل من ألمانيا وبولندا. بالإضافة إلى ذلك، ولت أيام الجهاز المنتفخ الميال إلى الكسل والرشا. كما تسير عملية لامركزية السلطة على قدم وساق، فضلاً عن أن الميزانيات الحالية ازدادت بأكثر من الضعف خلال السنتين الماضيتين، ما أدى إلى تحسين الطرقات، والمدارس، والمراكز الثقافية.علاوة على ذلك، عاد أخيراً الاقتصاد، الذي تقلص بأكثر من 20 في المئة بين عامَي 2014 و2015، إلى النمو هذه السنة بنسبة لا بأس بها تبلغ 3.5 في المئة. لا شك في أن أوكرانيا تحتاج إلى النمو بمعدل يتخطى هذه النسبة بنحو الضعف كي تتمكن من مجاراة جيرانها في الغرب. لكن المهم أنها نجحت أخيراً في النهوض من حالة الركود التي تلت الغزو الروسي.
القضاء على الفساد
وخلافاً للانتقادات الغربية، حققت أوكرانيا تقدماً كبيراً نحو القضاء على الفساد، فقد أعادت سلسلةٌ من الإصلاحات في مجالات تسعير الغاز، والتوريد، والأنظمة المصرفية والضريبية عائدات بلغت نحو ستة مليارات دولار في السنة كانت تُسرق سابقاً من الدولة، حسبما تؤكد دراسة ستُنشر قريباً لإيور بوراكوفسكي، خبير اقتصادي من معهد الأبحاث الاقتصادية والاستشارات السياسية في أوكرانيا، وهي مؤسسة فكرية مستقلة.بالإضافة إلى ذلك، تعيش أوكرانيا انتعاشاً ثقافياً مذهلاً، فقد نهضت صناعتها السينمائية مجدداً بعدما كانت تتراجع خلال السنوات العشرين الماضية. كذلك نلاحظ ازدهاراً في قطاع النشر وتُباع الكتب بسرعة رغم أجور الأوكرانيين المتدنية نسبياً.وبالتأكيد فما زال أمام أوكرانيا الكثير لتقوم به، ولكن عليها ألا تركّز فحسب على المنتهكين الأفراد، بل يلزم أن تعزز أيضاً جهودها لتعالج مصادر الفساد البنيوية والمؤسساتية. لا شك في أن بيترو بوروشينكو أفضل رئيس حظيت به أوكرانيا المستقلة، ولا يعني هذا أنه خالٍ من العيوب، ولكن خلال عهده، نجحت أوكرانيا في تحقيق كل هذه الإصلاحات، ويعود الفضل في ذلك في جزء كبير منه إلى مبادرة بوروشينكو. ولكن رغم إنجازاته الكثير، لا تُعتبر إعادة انتخابه في شهر مارس المقبل مضمونة. ينسى خبراء كثر في الغرب بسبب تركيزهم الضيّق على الفساد أن التبدل الاجتماعي- الاقتصادي السريع، كذاك الذي تشهده أوكرانيا منذ عام 2014، يتحول إلى مصدر زعزعة في ظل غياب مؤسسات ونخب سياسية مستقرة وقوية. وينطبق هذا الطرح، الذي برهنه العالم السياسي الراحل سامويل ب. هانتينغتون في ستينيات القرن الماضي، على أوكرانيا اليوم، فآخر ما يحتاج إليه مجتمع يتبدل بسرعة نظام سياسي مزعزع من الداخل بسبب انتقادات الفساد الداخلية ومن الخارج بسبب الغرب الذي يستخف بسرعة التغيير في أوكرانيا وروسيا التي تدرك أن أوكرانيا ستخرج من مدارها ما لم يتوقف هذا التغيير قريباً.معضلات صندوق النقد
من المؤسف أن المطالب التي يفرضها صندوق النقد الدولي على أوكرانيا تضع القيادة الحالية أمام معضلات كبيرة، إذ يصر صندوق النقد الدولي على تشكيل محكمة متشددة لمحاربة الفساد، وهذه بالتأكيد غاية منشودة، لكن الصندوق يصر أيضاً على زيادة ثابتة بنسبة 40 في المئة تُضاف دفعة واحدة على رسوم الغاز، غير أن هذه الخطوة ستدمر سياسياً بوروشينكو ومؤيدي الإصلاح التدريجي الذين يتولون اليوم الحكومة. لصندوق النقد الدولي للأسف سجل طويل من التركيز فحسب على الإصلاحات الاقتصادية الكلية من دون أخذ في الاعتبار تأثيراتها في شعب يعاني الفقر ويستطيع التعبير عن استيائه بالتصويت أو النزول إلى الشارع. ولا شك في أن ارتفاعاً كبيراً في الأسعار عشية حملة انتخابية رئاسية سيؤجج الغضب الشعبي، معززاً في الوقت عينه نفوذ الشعبويين والعملاء الخارجيين، علاوة على ذلك، قد يؤدي إنهاء برنامج الدعم التابع لصندوق النقد الدولي إلى التضخم وخفض قيمة العملة، مما يساهم في تعزيز موقف البدائل الشعبوية وتبديد المكاسب الراهنة.لكن التهديد المباشر الأكثر خطورة يبقى روسيا ورئيسها العدائي فلاديمير بوتين. صحيح أن الفساد يقوّض فرص أوكرانيا في النجاح على الأمد الطويل، إلا أن روسيا وحدها قادرة على تدمير أوكرانيا بين عشية وضحاها. فهل يعزز بوتين جهوده التخريبية الداخلية، فيصعّد القتال في منطقة دونباس، أم يغزو جزءاً إضافياً من أوكرانيا؟ ستكون الكلفة عالية جداً، بما أن قوى أوكرانيا الأمنية تعرب عن فاعلية عالية، فضلاً عن أن قواتها المسلحة تحولت إلى قوى محترفة صقلت مهاراتها في المعارك وتستطيع القتال بشراسة، لكن بوتين، الذي قاربت مسيرته على نهايتها، والذي يشعر بأن "الناتو" بات نمراً من ورق، قد ينجذب إلى فكرة شن "حرب صغيرة سريعة" ليحافظ على شعبيته، إلا أن عواقب مصيبة مماثلة قد تكون كارثية بالنسبة إلى أوكرانيا وروسيا أيضاً وحتى أوروبا.عند تأمل هذه المخاطر بوضوح، يتضح الدرس الذي يجب أن يتعلمه الغرب، فعلى الحكومات الغربية والمؤسسات المالية الدولية أن تتخلى عن تركيزها شبه الكامل على الفساد وتوسّع رؤيتها عن أوكرانيا لتشمل الكثير من المسائل الإيجابية التي يشهدها هذا البلد. ومن الضروري أيضاً أن يواصل الغرب دعمه لأوكرانيا اقتصادياً، ودبلوماسياً، وعسكرياً. ولا يعود ذلك إلى أن أوكرانيا تشكّل الحاجز الوحيد الذي يفصل بين الغرب وروسيا بقيادة بوتين فحسب، بل إلى أنها أيضاً دولة تكتسب بسرعة الطابع الغربي وحققت تقدماً مذهلاً خلال السنوات الأربع الماضي، إذن، تستحق أوكرانيا هذا الدعم بكل بساطة.*أدريان كاراتنيكي وألكسندر موتيل