مع بوادر فصل الصيف يخطط الكثيرون ليشدوا الرحال إلى بلاد الله الواسعة هربا من حر أو في إجازة لزيارة الأهل، للمغتربين الذين قضوا جُل العام في بلاد الغربة للعمل، وهناك من يرتحل في الصيف خاصة ليزور أماكن عشقها أو عاش فيها فترة من الزمن، فصارت جزءاً من كيانه تلاحقه ذكرياته فيها، فضلاً عن آخرين يبحثون عن أماكن جديدة تضيف إليهم المزيد من الاستمتاع والمعرفة والاكتشاف!من منا لم يقرأ ما قاله الشافعي عن فوائد السفر:
تَغَرَّب عَنِ الأَوطانِ في طَلَبِ العُلا وَسافِر فَفي الأَسفارِ خَمسُ فَوائِدِتَفَرُّجُ هَمٍّ وَاِكتِسابُ مَعيشَةٍ وَعِلمٌ وَآدابٌ وَصُحبَةُ ماجِدِوَإِن قيلَ في الأَسفارِ ذُلٌّ وَمِحنَةٌ وَقَطعُ الفَيافي وَاِكتِسابُ الشَدائِدِفَمَوتُ الفَتى خَيرٌ لَهُ مِن حَياتِهِ بِدارِ هَوانٍ بَينَ واشٍ وَحاسِدِولا نجد من يختلف على هذا، ولكننا في زمن يمكننا أن نزيد عليها الكثير الذي استجد على الحياة العصرية بما جادت به عقول البشر من اختراعات وأدواتٍ لاشك أنها أسباب جديدة لتنقُّل البعض وسفرهم في أرجاء المعمورة بحثا عن اكتشاف أو ابتعاد للتفرغ للبحث والتأليف، كما عرفنا عن الكثير من الروائيين أمثال إرنست همنغواي، الذي كتب رائعته «العجوز والبحر» في كوبا، والتي حاز بها جائزة نوبل في الأدب وجائزة بوليتزر الأميركية لأستاذيته في فن الرواية الحديثة ولقوة أسلوبه. والفنان بول جوجان الذي هجر مدينة النور باريس إلى بنما عام 1887 للبحث عن مواضيع جديدة، فاتجه نحو المدرسة التعبيرية، وفي عام 1891 عاود السفر في رحلة إلى تاهيتي لعرض لوحاته للبيع فأبدع مجموعة رائعة من اللوحات التي فتحت له باب الشهرة الواسع.ونذكر هنري ماتيس، زعيم المدرسة الوحشية الذي زار مدينة طنجة ضمن رحلة تكررت، حيث يذكر المؤرخون أنه كان دائم التردد على الغرفة 35 من فندق ڤيلا دي فرانس، المعلمة السياحية والتاريخية آنذاك، ومنها رسم الكثير من لوحاته التي أرّخت له ولطنجة، ومن خلال الغرفة 35 كان ماتيس يطل على طنجة كلها، ونافذته كانت في حد ذاتها لوحة، وإطلالة واحدة عبرها كانت توحي له بعشرات اللوحات، وهو لم يكن ينقصه الحافز لكي يحول باستمرار فضاء طنجة إلى ألوان. هذه النماذج من المبدعين تفيد بأن سفرهم وتنقلهم حققا إضافات ساعدتهم في تغذية الإنسانية بإبداعات متنوعة كانت في حاجة لها، كما هي دائما. كان ومازال السفر فرصة أتاحت لي لقاء بعض رواد الحركة التشكيلية العربية في مؤتمرات ومعارض جماعية منذ سنوات بعيدة وبقي التواصل وتبادل الخبرات قائما حتى الآن. وكلما سافرت إلى بلد سبق أن زرته توجهت إلى مكان بعينه كان لي فيه لقاء أو ذكرى حميمة، وأستحضر روح الأصدقاء الذين كانوا برفقتي.دائماً، أحن إلى تلك الشجرة الكبيرة التي تتوسط حديقة كلية الفنون بالقاهرة، حين جلست في ظلها وأنا أنظر إلى ذلك المبنى القديم الذي كان قصراً لأحد باشاوات مصر، والذي شهد أولى خطواتي في عالم الفن التشكيلي، وتشكلت فيه شخصيتي الفنية وقويت علاقتي برواد الحركة التشكيلية المصرية من أساتذتي الذين شرفت بالتعلم على أيديهم، ومنحوني وزملائي خير خبراتهم. في هذا المبنى كان ميلاد العديد من اللوحات التي كلما اشتقت إليها نظرت إلى صورها أستحضر زمانها الجميل.أسأل نفسي أحيانا: هل ينبغي السفر بالجسد فقط ليتحقق الاستمتاع والإبداع؟ أم أننا نسافر بأرواحنا ومشاعرنا إلى حيث تركنا أثر قدمٍ أو ظل على جدار قديم في زقاق ضيق، ومن حولنا صخب الحياة وصورها المتجددة. لاشك أن الروح أيضا تسافر في اليوم مرات ومرات وإلى أماكن كثيرة قد نكون قد سافرنا إليها أو أماكن شاهدنا معالمها في التلفاز أو في المجلات، وعلقت في ذاكرتنا مع تمني زيارتها يوما ما. سيبقى السفر متعة للمتعبين، وللمجتهدين مشروع بحث دائم.* كاتب فلسطيني - كندا
مقالات - اضافات
استمتاع... وإبداع!
21-07-2018