كيف تصبح متوحشاً؟
من المفترض أن تقوم كل دولة بدورها في حماية حدودها، ومنع استخدامها لمرور أصحاب الأفكار الإرهابية، حتى لو كانت تنخرط في عداء مع دولة جارة، وتجتهد لإطاحة الحكم فيها، لأن تمرير "الدواعش" لم يكن سوى طريقة لإعداد «التوحش»، الذي سيمتد أثره حتماً ليجور على الحقوق الإنسانية التي تحمينا جميعاً.
لا يمكن ذكر مصطلح "التوحش" من دون الإشارة إلى كتاب "إدارة التوحش"، الذي يُنظر إليه باعتباره "أيديولوجيا (القاعدة)" و"دستور (داعش)".يشرّح كتاب "إدارة التوحش" الفكر الأيديولوجي لتنظيم القاعدة، لكن خبراء يعتقدون أنه يجسد الدستور الذي اتبعه تنظيم "داعش" في المناطق التي نجح في السيطرة عليها.ويقع هذا الكتاب في 113 صفحة ضمّنها الكاتب ستة مباحث وعشرة فصول ومجموعة من المقالات، التي قدمت بالشرح والتفصيل رؤية "القاعدة" لكيفية إدارة المناطق التي تسيطر عليها وما ترى أنه "واقع الأمة الإسلامية".
مؤلف الكتاب يدعى "أبو بكر ناجي"، وهو شخصية غامضة لا يعرف ما إذا كانت حقيقية أم اسماً مستعاراً، لكن الأكيد أن "داعش" استخدم الكثير من الأفكار الواردة فيه خلال ممارساته العملية.لقد قدم "داعش" في الأراضي التي سيطر عليها في سورية والعراق، أو تلك التي نشط فيها من خلال عملياته الإرهابية مثل سيناء وليبيا، تجسيداً واضحاً لفكرة إدارة التوحش؛ إذ اعتمد تكنكيات الاستبداد باسم الدين، وتسييد منطق تأويلي صارم لكثير من الأحكام والاجتهادات الفقهية، وتبنى ممارسات حادة في فظاعتها وانقطاعها عن كل ما هو إنساني ورشيد.فإذا كان هذا الكتاب يتحدث عن "إدارة التوحش"، فكيف تمت صناعة هذا "التوحش الداعشي"؟هنا تظهر أهمية بعض المحاولات التي جرت من قبل باحثين وصحافيين حاولوا تقصي الطرق التي تم من خلالها "زرع الوحش الداعشي" في المناطق التي سيطر عليها.من بين تلك المحاولات ما قامت به الصحافية الفرنسية آنا إيريلي، من خلال كتابها المهم: "في جلد جهادي... صحافية صغيرة تدخل شبكة التجنيد في (داعش)"، والصادر عن دار "نيويورك هاربر كولينز"، في 2015.فقد انتحلت آنا، كما تقول، شخصية فتاة فرنسية صغيرة تسعى إلى الانضمام إلى "داعش"، وتواصلت إلكترونياً مع من وصفته بأنه "قيادي عسكري مقرب من البغدادي".تلخص الصحافية الفرنسية تجربتها بالقول إن القيادي "الداعشي" المفترض بدأ معها بإغراءات الانضمام إلى التنظيم، والعيش كـ"مسلمة حقة في البلد المسلم الوحيد، عوضاً عن البقاء في ديار الكفر"، قبل أن يعرض عليها الزواج، ويجذبها بالحديث عن "حياة مهمة، تتحقق من خلالها، في أجواء من المغامرة".ثم تحكي كيف أن هذا القيادي رسم لها مخططاً تستطيع من خلاله أن تصل إليه في البلدة التي يقيم فيها داخل الأراضي السورية، كما أمدها بأرقام هواتف لأشخاص سيقومون بمساعدتها في كل نقطة تصل إليها خلال رحلتها.أجرت صحيفة مصرية (الوطن)، مطلع هذا الشهر، مجموعة من الحوارات مع ثلاثة من "الدواعش" الذين تم القبض عليهم واحتجازهم في سورية، بعد تحرير المناطق التي سيطر عليها التنظيم.عندما تقرأ هذه التحقيقات يمكنك أن تتأكد من صدق كل كلمة أوردتها إيريلي في كتابها المميز؛ إذ كانت إفادات "الدواعش" الثلاثة الذين أجريت معهم المقابلات متطابقة مع ما أتت به تلك الصحافية المغامرة. ومن خلال تحليل إجابات "الدواعش" الثلاثة يظهر لنا أن طريقة إعداد "الوحوش الداعشية"، وضمهم إلى "الدولة" الجديدة، كانت سهلة وبسيطة، إلى حد أنه يمكن اختصارها في ثلاث كلمات على هذا النحو: "الإنترنت، داعية متطرف، الحدود التركية".لقد اتفق "الدواعش" الثلاثة؛ وهم نواف سيف، البحريني، ومحمد أبو شعيب، الفلسطيني، وعلي شاكمه، التركي، على أن تجنيدهم بدأ من خلال شبكة "الإنترنت".ويوضح الثلاثة كيف أنهم استطاعوا التعرف إلى الفكر "الداعشي"، وتمت استثارة حماستهم، و"استنفار غيرتهم على الدين"، وتحريضهم على الذهاب إلى "الجهاد" من خلال إصدارات التنظيم الإعلامية، التي اطلعوا عليها بكثافة في بلدانهم.والواقع أن "داعش" امتلك استراتيجية إعلامية متكاملة، وتلك الاستراتيجية حولت القدرات الاتصالية التي يمتلكها التنظيم إلى "أداة قتال رئيسة"، ويمكن القول إن تلك الأداة بالذات كانت الأكثر فاعلية ونجاعة بين الوسائل المختلفة التي استخدمها.لقد أوضحت دراسات عديدة أن "الإنترنت" كانت المرتكز الأساسي لاستراتيجية التننظيم الإعلامية، التي تنوعت وسائلها، ونجحت ببراعة في إنجاز عمليات الاستقطاب، والتجنيد، والاتصال الميداني، والتعبئة، والتدريب، وإصدار التكليفات، وصولاً إلى تنفيذ العمليات الإرهابية.أما الخطوة الثانية في طريق إعداد "التوحش" الذي كشفته الحوارات الثلاثة المشار إليها، فليست سوى "الدعاة المتطرفين" في بعض المساجد، فقد التقى "الدواعش" العتيدون قيادات من المتطرفين والإرهابيين الذين برزوا في صورة دعاة، استغلوا عواطفهم الدينية ومعرفتهم الضيقة بشؤون الدين، وبثوا فيهم الرغبة في الانتقال إلى سورية والعراق لـ "الجهاد".أما الخطوة الثالثة على طريق "التوحش" فليست سوى الحدود التركية؛ فها هو نواف سيف، يخبر الصحيفة المصرية بأنه بات "مجنداً" لدى "داعش"، عبر "الإنترنت"، ومن خلال تردده على أحد المساجد في بلده البحرين، حتى سُمح له بالسفر إلى "غازي عنتاب" في تركيا، ومنها إلى جرابلس السورية، لينضم إلى معسكر "الدواعش" في الرقة.أما شعيب الفلسطيني، فيقول إنه سافر إلى تركيا، ومنها إلى جرابلس، حيث كانت الطريق "سهلة جداً" بحسب وصفه، الذي لا يختلف عن وصف زميله التركي "شاكمه"، الذي ذهب أيضاً إلى الحدود التركية، ومنها إلى المدينة السورية ذاتها جرابلس، قبل أن ينضم إلى معسكر الرقة.ليس من المقبول أن تسمح دولة عضو في الأمم المتحدة، وتحظى باعتبار واحترام على المستوى الدولي، بأن تتحول حدودها الممتدة مع جارتها إلى طريق سهل وآمن لتمرير "الدواعش"، ليعيثوا فساداً في هذا البلد الجار، ويصنعوا عالمهم المتوحش.من المفترض أن تقوم كل دولة بدورها في حماية حدودها، ومنع استخدامها لمرور أصحاب الأفكار الإرهابية، حتى لو كانت تنخرط في عداء مع دولة جارة، وتجتهد لإطاحة الحكم فيها، لأن تمرير "الدواعش" لم يكن سوى طريقة لإعداد "التوحش"، الذي سيمتد أثره حتماً ليجور على الحقوق الإنسانية التي تحمينا جميعاً.لا يمكن ضمان القضاء على التوحش مجدداً إلا من خلال معالجة طرق إعداده، والتي ظهر أنها "الإنترنت" الداعمة للإرهاب، والدعاة المتطرفين، والسياسات الانتهازية غير الأخلاقية لبعض الدول.* كاتب مصري
«داعش» قدم في الأراضي التي سيطر عليها تجسيداً واضحاً لفكرة إدارة التوحش
لا يمكن ضمان القضاء على التوحش مجدداً إلا من خلال معالجة طرق إعداده
لا يمكن ضمان القضاء على التوحش مجدداً إلا من خلال معالجة طرق إعداده