الروائي ومدينته
"الروائي ومدينته"، كتاب أعده مجموعة من الباحثين عن الكاتب الروسي الشهير فيدور ديستويفسكي ومدينته بطرسبرغ، ولم يتركوا أي زاوية أو مكان ارتاده أو عاش فيه لم يتطرقوا إليه، وهذا يدل على مدى اهتمام الغرب واحترامهم لكتّابهم وفنانيهم، على عكس ما يحدث عند نحن العرب الذين لا يعني لهم الكاتب والفنان شيئاً بعد مماته.كما أن الكتابة عن حياتهم، خاصة الشخصية، صعب التطرق إليها، وعلى الخصوص حياة الكتّاب، فمن الصعب أن نستدل من سيرهم - إن وجدت - على أسرار حياتهم الشخصية، التي لها أهمية كبيرة في معرفة تأثيرها على كتاباتهم، الأمر الذي لا نجده في سير الكتاب والشعراء القدماء، حيث باتت حياتهم مكشوفة ومعراة تماماً للجميع، وهم بذاتهم كتبوا حياتهم قبل أن يتناولها الباحثون والنقاد.مثال على ذلك حياة الشاعر عمرو بن ربيعة وامرئ القيس وقيس بن الملوح وديك الجن، وغيرهم كثير من شعراء وكتّاب ذاك الزمن، كشفوا وصرحوا ولم يخفوا شيئا، ومن بعد زمنهم باتت سير حياة الكتاب الحميمية أمرا سريا وخاصا من الصعب الكشف عنه، كما أنه من النادر أن نجد من يبحث ويهتم بتفاصيل مدنهم وأماكنهم وتأثيرها عليهم وانعكاسها على كتاباتهم.
"الروائي ومدينته"، رصد كل صغيرة وكبيرة لمدينة بطرسبرغ ديستويفسكي منذ لحظه دخوله في عمر السادسة عشرة قادماً مع والده وأخيه لدراسة الهندسة بكليّتها، وظهرت تفاصيل المدينة بكل أحوالها وحالاتها من نهاراتها ولياليها وشوارعها وأزقتها وعماراتها ونهرها وفصول السنة بتحولاتها عبر سنواته التي عاش فيها، وتداخلت حياته معها وانعكست بكتاباته الروائية، ونجد الأحداث التي عاشها بالفعل قد عكسها على أبطال رواياته، ولم تكن حياته سعيدة فيها، بل بالعكس كانت بطرسبرغ تمثل له قمة البؤس والتعب والتعاسة، وإن كانت مشاعره تجاهها ملتبسة ما بين الحب الشديد والنفور والضيق منها، وكانت تمثل له المدينة الطيف أو الشبح، ويرى ازدواجيتها بظاهرها الرائع وباطنها المليء بالتعاسة، بين جمالها القاسي وكبريائها تجاه الإنسان الأعزل، وهذا مقتبس من الكتاب يكتشف بها روح المدينة: "وإذا بفكرة ما غريبة تتحرك بداخلي، لقد شعرت برجفة شديدة، وإذا بقلبي وكأنه ينبوع يفيض بالدم الساخن، وفجأة إذا به يفور من جراء تدفق إحساس هادر لم أشعر بمثله بعدها أبداً.لقد بدا لي أنني أدركت شيئاً ما في هذه اللحظة، شيئاً ظللت حتى هذه اللحظة أشعر أنه يتحرك بداخلي فقط، ولكنه لم يكن قد اتضح بعد، وكأنه قد انكشف أمامي عالم جديد تماما، أظن أن وجودي يبدأ منذ هذه اللحظة".وتتضح مدينة بطرسبرغ بكل تفاصيلها التي لا تدركها إلا عين فنان مرهفة بروايته "الجريمة والعقاب" صور الحياة بكل نبضها من خلال شخصية بطلها راسكولينكوف مال على الماء، وأخذ ينظر فيه، على غير شعور ولا إرادة إلى الانعكاسات الأخيرة الوردية لأشعة الشمس الغاربة وإلى صف المنازل التي يغشاها الغسق شيئا فشيئا، هذه غرفة بعيدة من الغرف التي تقع تحت السقوف تلتمع نافذتها وتتوهج تحت شعاع الشمس الساقطة عليها، وهذا ماء القناة يظلم مزيدا من الإظلام شيئا بعد شيء".أجمل ما في الكتاب دقته بتتبع الأمكنة التي عاش فيها الكاتب خطوة خطوة، مع ملاحظة وتسجيل كل التغيرات التي طرأت عليها مع مرور الزمن، وبالتالي ينطبق ويتماهى زمن ديستويفسكي مع زمن أبطاله المرسومين برواياته مع الزمن الحالي للباحثين المتتبعين لخطواته عبر الشوارع والمباني التي سكنها الكاتب وشخصياته: "والآن عندما نتذكر كيف امتزجت المدينة عند ديستويفسكي بأبطاله، وكيف استطاع أن يصف لنا بدقة أحوالهم وأمزجتهم، المناخ وأماكن الأحداث، فنجرب السير عبر الشوارع الحقيقية والخيالية في الوقت ذاته للرواية، أن نتبع خطى راسكولينكوف وهو في طريقه إلى ميدان العلف، أن نتمشى على رصيف القناة نقلب صفحات الرواية "في مطلع شهر يوليو، وفي يوم شديد الحرارة من أيامه، وكان المساء يسدل أستاره، خرج شاب في مقتبل العمر من غرفته الضيقة، التي استأجرها من أحد السكان في حارة "س" نحو الشارع، ثم وبخطوات بطيئة، كما لو لم يكن قد حسم أمره، إذا به يتوجه نحو جسر ك".ويتم التتبع مع الأرشيف التاريخي للمباني والشوارع لمعرفة التغيرات التي طرأت عليها وعلى التحولات التي لحقتها.