إحراج
توالي قصص التزوير والغش في مجتمعنا المحافظ يشكل ظاهرة تبعث على القلق الشديد، فمنذ فترة ونحن نعالج موضوع الغش في الامتحانات، وما بين اعتراضات الأهل على معاقبة أبنائهم الغشاشين ومطالباتهم بالتساهل مع هؤلاء، وما بين المقاومة الشديدة من الطلبة ذاتهم ومحاولاتهم المستمرة لإيجاد وسائل غش مبتكرة، وما بين النتائج الفاضحة لعدم نجاح أحد في "دراسة المنازل" بعد التشدد في الرقابة ومنع الغش، نعلم أننا أمام مشكلة شديدة التعقيد، فهي ليست مشكلة إلكترونية تتطلب ابتكاراً في مقاومتها، وهي ليست مشكلة رقابية تتطلب تكثيفاً لأعضائها، هي مشكلة أخلاقية تتطلب علاجاً جذرياً طويل المدى، مشكلة تحتاج مواجهة حقيقية مع المجتمع وفهما عميقا لآلية عمله والتي أوصلته لهذه المنطقة، منطقة الكسب السريع على حساب الأخلاق والقيم. ومنذ فترة (تكاثفت الآن) ونحن كذلك نتعامل مع ظاهرة التزوير الأكاديمي، حيث تطفو الفضائح بين فترة وأخرى لشهادات بكالوريوس وماجستير ودكتوراه مزورة تقول الشائعات القابلة للتصديق إنها لشخصيات مهمة في البلد. تضيف هذه المشكلة بعداً أعمق لمشكلة الغش، تشير إلى أن الخراب الذي يبدأ في الصغر يمتد أثره للكبر، وأن التهاون اللا أخلاقي، مثله مثل كل شيء في الحياة، يكبر مع الزمن ويسهل بمرور الوقت ويتأصل بالاعتياد ثم يتحول نتاجه الى حق مكتسب، يشعر أفراد المجتمع أنهم يستحقونه ولا يلامون على السعي خلفه.
الوصول السهل من خلال الغش أو السرقة الأدبية أو من خلال دفع المبالغ المالية أو من خلال العلاقات والوساطات، ثم تبرير هذا الرحلة الفاسقة بأنها رحلة يستقلها المعظم وأن "حشرا مع الناس عيد" وكأن التقليد يبيح المحظورات ويحول الفساد الى ممارسات أخلاقية، هي حالة يصعب تبريرها بوضوح ودون الدخول في منطقة خطرة ومؤذية وغاية في الحساسية. في مجتمع محافظ ينبذ أقل ما يمكن أن يتعارض مع الرؤية الدينية التقليدية، ما الذي يبرر قبوله لهذه الممارسات بل ارتياحه في أدائها؟ كيف يفصل الناس التقييم الإلهي لتصرفاتهم من حيث إن الرب ذاته الذي يؤمنون أنه يحاسبهم على أدائهم المتقن للصلاة أو الوضوء لا يعتقدون أنه يحاسبهم على تزوير شهادة أو ارتكاب غش أو حتى استخراج طبية مزورة؟ كيف تلتقي الحالتان في العقلية المؤمنة الكويتية؟يفلسف بعض المفكرين الحالة على أنها شعور بأمان عميق داخلي بسبب الوجود في منظومة دينية تخبر الأشخاص أنهم، مهما عظمت خطاياهم، ذاهبون للجنة في نهاية المطاف ولو بعد بعض العقاب. يقول بعض المفكرين إن هناك أشخاصاً يتهاونون في التزامهم الأخلاقي شعوراً منهم بأمان تام تحت منظومة دينية تضعهم في مصاف "المختارين"، فهم على طريق الحق المطلق وإن تهاونوا في بعض الممارسات، كما أن هذه المنظومة تعوض أخطاءهم بممارساتهم التعبدية الأخرى، تزور شهادة مثلاً، ثم تستغفر وتقيم الصلاة وتحج لتخلص نفسك من آثام الممارسة. ليس هذا بخطأ المنظومة الدينية بالطبع، ولا يوجد دين يبرر الأخطاء بهذه الصورة الساذجة التي يصورها أصحابه، وهناك بكل تأكيد مجتمعات متدينة لا تعاني التساهل القيمي الذي نعانيه نحن، إلا أنه إذا ما تكالبت الأسباب، فلربما يصبح الأمان الديني محفزاً للتساهل في الأمور الحياتية الأخرى. أتذكر إبان الإقامة في أميركا أن بعض الكويتيين الدارسين هناك كانوا يبررون عدم دفع مديونياتهم على بطاقاتهم الائتمانية بحجة وجود فتاوى تبيح السرقة من الكفار. الشعور بالاستعلاء الديني مترافقاً مع بعض الآراء الدينية التي تسهل الاستفادة بالتحايل ممن هم على غير الدين المعني يشكلان محفزات مهمة للتخطي فوق الكثير من القيم التي يكون الالتزام بها عبئاً أو عائقاً أمام المصالح والمكاسب.لكن لا يمكن أن يكون هذا هو السبب الأوحد أو حتى الرئيس، في اعتقادي أن السبب الرئيس لظاهرة التزوير والغش البشعة المتفشية بيننا هو قوة الشعور العام بأن "من صادها عشى أهله" وبأن الملتزم بالمبدأ سيفوته المئات غير الملتزمين، وأن الدولة بخضوعها للوساطات، تشجع هذا المنحى وتقوي شوكة الانتهازي، وهذا مبرر كافٍ أمام الله لتخطي المبادئ والقيم وللتساهل في تنفيذهما، هذا التساهل الذي من يتعنت معه سيجد نفسه دوماً في آخر الصف، منتهكة حقوقه، متراجعة فرصه، بلا أي وسيلة لتحقيق النجاح الذي بكل تأكيد لو أحرزه فسيساعده لاحقاً (كما يسر ويبرر هو لنفسه) على تقويم الاعوجاج وإصلاح الخطأ.كانت الأخبار في البداية محرجة كلما هاجت وظهرت تفاصيلها، الآن الأخبار مقلقة، وهي على شفا أن تصبح مرعبة. إذا صحت الشائعات المنتشرة، فأين هم المزورون وأي مناصب يتقلدون وأي أضرار أحاقوا بنا، ليس فقط عملياً واقتصادياً، ولكن أخلاقياً كذلك؟ ماذا أورثوا الجيل الذي يليهم من موظفيهم؟ أي أسس ونظم وقيم نشروا في مقار أعمالهم، والتي ستبقى حية كما العفن يتسلق انتشاراً في الخفاء؟ الموضوع أبعد من "شوية" قيم وأخلاق نتباكى عليها، نحن نستشعر الضعف العام في مرافقنا وفي خدماتنا ونعاني من العقليات التي تدير الكثير من شؤوننا وتنجز الكثير من معاملاتنا، الموضوع إذاً موضوع أساس قامت عليه الدولة، إلى أي مدى هو مغشوش؟