قال فيلسوف القرن السابع عشر والكاتب الساخر جون دولابغوييغ ممازحا ذات مرة "يجسد كورني الإنسان كما يفترض أن يكون، في حين يجسده راسين كما هو"، وفيما يتعلق بالأوروبيين بل حتى الفرنسيين، كانت كأس العالم حدثا كورنيلييا، فكانت مباريات كأس العالم التي دامت شهرا كاملا في روسيا بمثابة فرصة خيالية استرحنا فيها من عالم مضطرب واكتشفنا فيها طبيعتنا الملائكية في أحسن أحوالها.

وعلى عكس ما هو مألوف، فقد غلبت على هذه المنافسة مشاعر الثقة بالنفس وحب الآخر والانفتاح عليه، وعلى الأقل،بدا وكأن الناس تناسوا مشاعر التعصب والاغتراب والإحباط التي سيطرت على هذه الحقبة المشحونة بالقومية الشعبية.

Ad

ومن الناحية الجغرافية تنتمي كل الفرق الأربعة- فرنسا وكرواتيا وبلجيكا وإنكلترا- المؤهلة إلى نصف النهائيات إلى أوروبا، ويمكنك أن تنتقد أوروبا بسبب ضعفها وتدني مستواها الأخلاقي كيفما تريد، لكن عندما يتعلق الأمر بالرياضة الأكثر شعبية في العالم، فأوروبا هي من يتربع على العرش.

وعلاوة على ذلك يبدو واضحا أن إفريقيا ستكون قارة كرة القدم في المستقبل، ففي حين كانت أميركا اللاتينية قارة كرة القدم في الماضي، حيث فازت الأوروغواي بكأس العالم عامي 1930 و1950، وكانت أصغر بلد (من حيث الكثافة السكانية) يمر إلى الدور النهائي، ولكن هذا الشرف أصبح من نصيب الفريق الشجاع القادم من كرواتيا، وهو آخر عضو التحق بالاتحاد الأوروبي.

وما هو مناقض تماما لـ"العالم الحقيقي" هو أن القوتين الرائدتين، أي الولايات المتحدة الأميركية والصين، لم تلعبا أي دور في المنافسة، وتبين أن حلم وزير الخارجية الأميركي السابق، هينري كيسنجر، بأن يجعل من الولايات المتحدة قوة كروية كبرى أصعب نيلاً مما كان يتوقعه، وتبقى الصين برئاسة شين جين بينغ لاعبة كرة قدم من فئة الوزن الخفيف، رغم أنها أنفقت الملايير من الدولارات للنهوض بهذه الرياضة، ومثلت المكسيك أميركا الشمالية بكل شجاعة وثقة في حين مثلت اليابان وكوريا الجنوبية آسيا.

والفرق الغريب بين العالم الحقيقي وعالم الكرة هذا العام كان أيضاً واضحاً في تصريحات بشأن مشاعر القومية، فذات مرة انتقد الكاتب الأرجنتيني الكبير جورج لويس بورجز، هذه الرياضة لأنها تساهم في ظهور مشاعر القومية السامة (مثل "الحرب الكروية" القصيرة الأمد التي جرت بين الهندوراس والسلفادور في عام 1969). لكن قومية كأس العالم لعام 2018- أي بعد مرور قرن من الزمن على نهاية الأحداث الدامية والقومية التي شهدتها الحرب العالمية الأولى- كانت "ناعمة" بل لطيفة.

ولا تدعم روسيا القوة الناعمة أبداً، لكنها تستحق التنويه لغياب العنف خلال المنافسات، فقد أظهرت تقارير للصحافة الدولية، مناصرين من أوكرانيا وروسيا يجتمعون سوياً وكأنهم يعرفون بعضهم منذ زمن بعيد، وفي حين جسد مهرجان وودستوك الذي تم إحياؤه خلال حرب فيتنام شعار "تعلم أن تحب، لا أن تحارب"، كان الشعار الحقيقي لكأس العالم 2018 هو" اقذف الكرة لا القنبلة".

وعلاوة على كونها مصدرا لقومية بنّاءة، جسدت الفرق المؤهلة إلى نصف النهائيات ومناصريها العمل الجماعي الفعال وحب الآخر والانفتاح والتسامح، والأمر الذي أثار الاهتمام، هو أن الفرق التي اعتمدت على نجم كروي واحد- سواء كان ذلك كريستيانو رونالدو في فريق البرتغال أو ليونيل ميسي في الأرجنتين أو نيمار في البرازيل- كلها فشلت في المرور إلى ما بعد ربع النهائيات.

وفي العالم الحقيقي اليوم، يميل الأشخاص أكثر فأكثر إلى بناء الجدران والانعزال عن "الآخرين"، ومع ذلك فقوة الفريق الفائز، أي، فرنسا، تكمن في تنوعه، وكان نشيد هذا العام "الحرية، المساواة، مبابي". ( نسبة إلى المهاجم الفرنسي ذو التسعة عشر ربيعا كيليان مبابي)، النسخة الأكثر انفتاحا للشعار الذي حملته فرنسا عند فوزها عام 1998: "نريد زيدان رئيسا".

وفي ليلة الانتخابات الرئاسية لفرنسا عام 2017، كرر العديد من المعلقين السياسيين عبارة "لا يكتمل اثنان دون ثالثهما"، فبعد استفتاء بريطانيا بشأن خروجها من الاتحاد الأوروبي وانتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حذر هؤلاء المعلقون من أن فوز ممثلة الجبهة الوطنية لليمين المتطرف، مارين لوبان، قد يكون الحدث الثالث، وفي الطريقة نفسها ظن العديد من المعلقين في بداية عام 2018 أننا نقترب من نسخة أخرى من "مايو 1968" أو من "ديسمبر 1995"، عندما شلت إضرابات جماعية ومظاهرات الشوارع البلد بأكمله.

ورغم أن فرنسا شهدت بعض المظاهرات ضد الإصلاحات التي حددها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في برنامجه، فالمعلقون أخطؤوا في تخميناتهم، فالعام الذي يشبه هذه السنة أكثر من غيره ليس 1968 أو 1995، بل 1998، عندما فازت فرنسا بكأس العالم لأول مرة.

وعلى المستوى المحلي يحتمل ألا يكون لفوز فرنسا أي تأثير على شعبية ماكرون، فالمشاعر الكروية قوية بصفة عامة، لكنها قصيرة الأمد، إلا أنه على المستوى الدولي، يمكن لفوز فرنسا أن يكون له تأثير طويل الأمد، فلا أحد يستطيع أن ينكر "أن فرنسا عادت من جديد"، على الأقل فيما يتعلق بكرة القدم، وقد أصبحت واحة من الديناميكية والواقعية والحماس الشبابي، وهي قيم تنعكس أغلبها في شخصية ماكرون نفسه.

ولم تحقق ألمانيا هي الأخرى أي شيء في هذه المنافسة، فطالما كانت ألمانيا مدرسة قوية لكرة القدم، لكنها أقصيت في الدور الأول من هذه المنافسة، تماما كما هي حال سياساتها التي دخلت مرحلة في غاية الاضطراب، ومن الناحية الجغرافية، إذا كان علينا أن نختار فائزين لهذا العام، فيجب أن يذهب اللقب إلى روسيا وفرنسا.

* دومينيك مويزي

* مستشار رفيع المستوى لدى معهد مونتين في باريز.

«بروجيكت سنديكيت، 2018» بالاتفاق مع «الجريدة»