حين يبدأ الرؤساء الأميركيون بالتفكير في إرثهم يكونون قد اجتازوا غالباً شوطاً كبيراً من ولايتهم الثانية، ومع إطالة ترامب الوقت وخوضنا دراما عقد في 18 شهراً، يُعتبر السؤال التالي ملحاً جداً اليوم: ماذا سيدوم من الترامبية؟قد تدوم أجزاء من رئاسته، بخلاف سياسته الخارجية، ففي الداخل، مع تساهله الضريبي وحمائيته وعدائيته تجاه الهجرة، يعمل الرئيس مع الرأي العام، واللافت للنظر أن الحكومات لم تتخلَّ عن مناورة الأوراق الثلاث، التي تشمل الموازنات المتوازنة، والتجارة الحرة، والحدود الليبرالية، في وقت أبكر نظراً إلى ضعف الدعم الكامن وراء هذا "الإجماع".
نجح ترامب في دفع هذه المواقف المخفية إلى السطح، وهكذا سيُضطر مَن يخلفه إلى التعاطي معها، لكنه لن يُضطر إلى التعاطي مع الشعب المعادي للغرب لأنه لا وجود له، فلا تتخطى نسبة الأميركيين الذين يملكون نظرة سلبية إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) الـ23%، كذلك لا تنفك المواقف تزداد تشدداً في التعامل مع روسيا، ففي أواخر عام 2012، ندد أوباما بمنافسه في الانتخابات لاعتباره روسيا خطراً رئيساً يهدد الولايات المتحدة، وقال لميت رومني: "تنادي ثمانينيات القرن الماضي للمطالب بالعودة إلى سياستها الخارجية"، فكانت غالبية الأميركيين آنذاك تحمل نظرة إيجابية إلى روسيا، أما اليوم فيعارضونها بمعدل 72% إلى 25%.علاوة على ذلك، لا يملك ترامب أي خبراء في السياسة الخارجية إلى جانبه، ومن الشائع اليوم التحدث عن النخب السياسية، مشبهين إياها بمجموعة نكرة خائفة، كما لو أن الولايات المتحدة تخضع راهناً لمثلث حديدي يتألف من المحطات الإخبارية، وترامب نفسه، والعقل الجماعي لوسائل التواصل الاجتماعي، ولكن لا مفر من ملء الحكومة بالموظفين، فمن دون الأعداد يعجز الرئيس عن فرض نفسه على البيروقراطية الفدرالية، وتقتضي القاعدة الأولى في السياسة، وفق ليندون جونسون، ضرورة إيجاد العد، وتنطبق هذه القاعدة على ملء المناصب التنفيذية بقدر جمع الأصوات في الكونغرس.يدرك ترامب هذه المسألة، لذلك اختار حمائيين للمناصب التجارية (روبرت لايتيزر) وأشخاص ميالين إلى التخفيف من القيود والضوابط في وزارة الإسكان (بن كارسون)، كذلك نشر محبو خفض الضرائب في كل مكان، ولكن باستثناء سفير غريب الأطوار أو اثنين، يفتقر ترامب إلى رجل قوي معادٍ لأوروبا يشكك في جدوى الناتو، سياسي متملق ينجح في التحكم في العواقب. وزير الخارجية مايك بومبيو ليس كذلك، أما مستشار الأمن القومي جون بولتون، فلا يملك الوقت الكافي للأوروبيين، فكم بالأحرى لتخريب الديمقراطية الأميركية الخارجي؟ ولكن كي تدوم سياسة ترامب الخارجية بعد أفكاره وأوامره، يحتاج إلى كادر من المحترفين الذين يواصلون الفكر ذاته بعد رحيله. إلا أن ترامب لا يحظى بعدد كبير ممن يشاطرونه أفكاره حين يكون موجوداً، وإذا افترضنا أن ثمة عقيدة خاصة بترامب، فالملتزمون بها قلائل بين الجمهوريين في الكونغرس والمفكرين المحافظين، الذين يصف منبرهم، صحيفة وول ستريت جورنال، موقف الرئيس الجيو-استراتيجي بـ"ترامب أولاً".لا شك أن البعض يعملون بصمت لإبقاء الولايات المتحدة بعيداً عن المآسي الخارجية، وثمة صقور مستعدون للتدخل أينما كان، وهنالك أيضاً أعضاء في مجلس الشيوخ مستعدون للتعبير عن استيائهم وغضبهم عندما تنشأ الحاجة إلى تأنيب الرئيس، ولكن هل من أعداء صريحين وفخورين للنظام الغربي؟ هل من متحمسين للاستدارة نحو موسكو؟ علينا أن نغوص إلى أعماق أبعد في الأوساط المحافظة لنعثر عليهم.لم يكن الحدث الأبرز في الأيام الأخيرة تصريح ترامب عن الاستخبارات الأميركية، بل السرعة التي عاد بها عن هذا التصريح. لديه أجهزة استشعار سياسية، إذا جاز التعبير، وترتجف بعصبية، فأجندته الخارجية شعبوية لا أكثر، ويؤيد الناخبون ترامب في مواضيع كثيرة، بخلاف هذه الأجندة، فالجمهوريون مستعدون للسير وراءه إلى أماكن غريبة عدة، باستثناء هذا.ساعدتنا الأيام القليلة الأخيرة في الإجابة عن سؤال الإرث، أي أوجه من هذه الرئاسة سيحتفظ بها الجسم السياسي بشكل نهائي وأي أوجه سيرميها كما لو أنها نفايات كريهة الرائحة؟ قد تدوم سياسات ترامب الداخلية، أما سياسته الخارجية، مع كل الأذى الذي تسببه راهناً، فستزول مع رحيله.* جنان غانيش* «فاينانشال تايمز»
مقالات
سياسة ترامب الخارجية لن تدوم بعد انتهاء عهده
25-07-2018