كانت مقدونيا من ضمن الدول الأوروبية التي راقبت بقلق كبير فشل الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مواجهة نظيره الروسي فلاديمير بوتين في قمة هلسنكي وتوبيخه حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي خلال جولته في القارة الأوروبية، وكانت مقدونيا التي يبلغ عدد سكانها نحو مليوني نسمة تحاول منذ سنين الحصول على فرصة للانضمام إلى الناتو، وهو ما أثار استياء روسيا إلى حد كبير.

ويمكن للمرء أن يعذر مقدونيا لشعورها بالإرباك والتشويش إزاء ما يحمله المستقبل، لأن ذلك البلد الذي كان لديه الكثير للاحتفال به في الأسابيع القليلة الماضية كان لديه أيضاً الكثير مما يثير قلقه ومخاوفه.

Ad

وخلال قمة حلف شمال الأطلسي في بروكسل وجهت الدعوة بصورة رسمية أخيراً الى مقدونيا الواقعة في البلقان للانضمام إلى الحلف، وذلك في بيان رسمي موقع من جانب كل القادة المجتمعين بمن فيهم الرئيس دونالد ترامب.

وكان أعضاء الحلف– 29 دولة– بما فيهم جمهورية الجبل الأسود التي انضمت في الآونة الأخيرة يعلمون أن عملية إشراك دولة بلقانية سيدفع روسيا الى التحرك، وتعترض موسكو بشدة على توسع الحلف الأطلسي في منطقة البلقان. وفي الماضي أظهرت روسيا استعدادها للقيام بعمل من نوع ما بغية الحيلولة دون حدوث ذلك، وقد لاحظ بيان الناتو نفسه الذي وجه الدعوة الى مقدونيا تدخل روسيا أيضاً في سيادة الجبل الأسود، مشيراً الى الحملات المضللة المتعلقة بمحاولة الانقلاب فيها التي هدفت الى إحباط تلك الخطوة، ويدعم الدليل بقوة مزاعم حكومة الجبل الأسود في وقوف الاستخبارات الروسية وراء تلك المحاولة.

وتنشغل مقدونيا بشدة الآن في جهود روسيا لمنعها من الانضمام الى حلف الناتو، ويقول رئيس وزرائها زوران زائيف إنه طلب شخصياً من ترامب المساعدة في الدفاع لمواجهة جهود موسكو لمنع عملية الانضمام.

وتتهم اليونان أيضاً الحكومة الروسية في التدخل لمنع هذه العملية، وفي اليوم الذي سبق قمة الناتو طردت أثينا اثنين من الدبلوماسيين الروس، ومنعت اثنين آخرين من دخول اليونان متهمة إياهما بالعمل بصورة غير مشروعة لتقويض الاتفاقية التي تم التوصل إليها في الآونة الأخيرة لانضمام مقدونيا الى التحالف الغربي.

الطريق الطويل

كان طريق الانضمام طويلاً بالنسبة الى مقدونيا، وهي واحدة من الجمهوريات التي ولدت بعد تفكك يوغوسلافيا في أعقاب نهاية الحرب الباردة، وقد مر عقد كامل قبل أن يوجه حلف شمال الأطلسي الدعوة اليها للانضمام.

وفي سنة 2008 اعترضت اليونان على انضمام مقدونيا الى الناتو بسبب نزاع حول اسم الدولة الذي هو أيضاً اسم منطقة يونانية، وكانت أثينا تتخوف من أن تستخدم مقدونيا الاسم المشترك من أجل تأكيد مطالبها في السيادة على أرض يونانية، وقد عزز هذا النزاع مواقف الوطنيين في البلدين، ولكن بعد تغير الحكومة المقدونية في شهر مايو من عام 2017 بدأت المفاوضات بين الجانبين، وفي الشهر الماضي بلغت تلك المفاوضات ذروتها فيما يبدو أنه كان حلاً لهذا الخلاف، وذلك من خلال إعلان الدولتين التوصل الى اتفاق على إعادة تسمية مقدونيا.

وإذا سار كل شيء حسب هذه الخطة فإن تلك الدولة- التي انضمت الى الأمم المتحدة تحت اسم مؤقت هو جمهورية مقدونيا اليوغوسلافية السابقة– ستعيد تسمية نفسها لتصبح مقدونيا الشمالية وتعلن بشكل رسمي عدم مطالبتها بإقليم مقدونيا اليوناني، ولا يزال تغير الاسم يتطلب موافقة تشمل عدة خطوات بما في ذلك إجراء استفتاء في مقدونيا في الخريف المقبل.

موجة احتجاجات

ومنذ ذلك الإعلان شهدت مقدونيا موجة من الاحتجاجات المناوئة للحكومة طالب المتظاهرون فيها– بين أشياء أخرى– بإجراء انتخابات مبكرة، ويقول المحتجون إنهم يعارضون تغيير الاسم ويشعرون باستياء من الحالة الضعيفة لاقتصاد البلاد بصورة عامة، ومن جهتها تقول الحكومة إن الانضمام الى حلف شمال الأطلسي سيعطي دفعة قوية للاقتصاد وتشير في هذا الصدد الى تحسن الاستثمارات الأجنبية في بلغاريا بعد انضمامها الى حلف شمال الأطلسي، وربما لأن تلك العضوية أعطت درجة من الثقة للمستثمرين.

واتهم رئيس وزراء مقدونيا الحكومة الروسية بتغذية موجة الاحتجاجات مشيراً الى أن رجال الأعمال اليونانيين الذين يرتبطون بعلاقات مع موسكو كانوا يقدمون الأموال من أجل إثارة المتاعب في البلاد.

وتشابه هذه الاتهامات اتهامات مماثلة صدرت عن السلطات اليونانية التي اتهمت عملاء روس بالقيام بمحاولات متكررة من أجل رشوة أعضاء في «أنيل»، وهو الحزب الوطني اليميني في الائتلاف اليوناني الحاكم، وذلك في محاولة لعرقلة الاتفاقية مع مقدونيا، وتقول تقارير إعلامية محلية في اليونان إن العملاء الروس عمدوا الى تمويل الاحتجاجات المناوئة لتغيير الاسم أيضاً، وقد رحبت المصادر الروسية بتشكيل حزب سياسي جديد من جانب عضو منشق من «أنيل» يمكن أن يضعف الائتلاف الحكومي في اليونان برئاسة رئيس الوزراء أليكسي تسيبراس الذي أجرى مفاوضات مع حكومة مقدونيا حول الاتفاق.

وتهاجم وسائل الإعلام الخاضعة لسيطرة الدولة الروسية، وكذلك مواقع التواصل الاجتماعي في البلدين الاتفاق المشار إليه.

موسكو ترفض الاتهامات

من جهتها رفضت موسكو الاتهامات التي تحدثت عن دور لها في هذه العملية، وقالت إن حلف شمال الأطلسي يحاول «ابتلاع مقدونيا بالقوة» بغية توسيع نفوذه، ولكن روسيا هي التي تطلق التهديدات، كما أن السفير الروسي لدى الاتحاد الأوروبي فلاديمير شيغوف يوافق على أن «لكل دولة الحق في اتخاذ القرارات المتعلقة بها وارتكاب الأخطاء التي قد تنجم عن مثل تلك القرارات»، ولكنه أضاف أن «ثمة أخطاء قد تكون لها عواقب».

وقبل أربع سنوات حذرت موسكو أيضاً أوكرانيا من عواقب التقرب من الاتحاد الأوروبي، وقد أعقب ذلك قيام روسيا بغزو أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم، وقال السفير شيغوف إن بلاده لن تعمد «طبعاً الى القاء قنابل نووية»، وهو ما يعني أن روسيا واثقة من موقفها القوي في هذه المسألة.

والسؤال هو كيف يستطيع حلف شمال الأطلسي، بوجود رئيس أميركي متردد، الرد على تصعيد روسيا لإجراءاتها الهادفة الى منع مقدونيا من الانضمام الى التحالف الغربي.

وتجدر الإشارة إلى أن ترامب استبعد بعد قمته مع بوتين في هلسنكي إمكانية القيام بحرب من أجل الدفاع عن الجبل الأسود، وهي دولة بلقانية أخرى عضو في حلف شمال الأطلسي، ولكن وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس قال بعد اجتماعه مع نظيره المقدوني في شهر مايو الماضي إنه تحدث صراحة معه حول التدخل الروسي، مشيراً الى «أن موقف مقدونيا المعارض للتدخل الروسي في البلقان يستحق الإشادة».

كما أشاد بزيادة إنفاق مقدونيا الدفاعي في حلف شمال الأطلسي ليصل الى 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وأكد من جديد قوة العلاقات الثنائية معها.

يذكر أن حكومة مقدونيا تعول على مظلة التحالف الغربي من أجل حمايتها من روسيا، ولكن في مناخ اليوم من عدم اليقين فإن الدعوة الى انضمام مقدونيا الى حلف شمال الأطلسي قد لا تكون كافية لتبديد قلقها من التداعيات المحتملة.