ما قــل ودل: التقاعد المبكر والتضامن الاجتماعي
زاغ مشروع القانون المتعلق بالتقاعد المبكر ببصره عن تحقيق التوازن في علاقات الأفراد بعضهم ببعض وبأوضاع مجتمعهم والمصالح التي يتوخاها، بما يكفل إسهام أكبر عدد من بينهم لضمان أكثر المصالح والقيم الاجتماعية تعبيرا عن النبض الاجتماعي لإرادتهم.
أنصف مشروع القانون الحقيقة من ذاته في مذكرته الإيضاحية التي استهلها عندما أقرت مقدمتها أن "التقاعد المبكر يرتبط بأسباب لا صلة مباشرة لها بالأخطار التي يؤمن نظام التأمينات المؤمن عليه ضدها".وتأسيسا على ما قررته هذه المقدمة أيضا: "بأن التزام الدولة بتوفير خدمات التأمين الاجتماعي مرتبط بحسب الأصل بتغطية أخطار الشيخوخة والمرض والعجز والوفاة وليس من ذلك التقاعد المبكر".وفي قول المذكرة بأن التأمين مرتبط بحسب الأصل بهذه الحالات، زادت الحقيقة إنصافاً لأن التقاعد المبكر ليس غريبا عن نظام التأمينات الاجتماعية، بل يعرفه هذا النظام في حالات حددها على سبيل الحصر وهي: حالات العجز الكامل عن العمل، واستنفاد الإجازات المرضية، وعدم اللياقة للخدمة صحيا في القطاع الحكومي، وحالات انتهاء الخدمة لأسباب تهدد حياة المؤمن عليه بالخطر إذا استمر في عمله، فضلا عن رعاية معاق.
فهذه الحالات هي وحدها التي قدّر نظام التأمينات الاجتماعية أنها وحدها التي تمثل ضرورة تقتضي الخروج على وجوب بلوغ المؤمّن عليه السن المحددة لاستحقاق المعاش، وفقا للمعدلات والحسابات الاكتوارية التي يقوم عليها النظام، والتي تضمن استمراره وانتظامه في الوفاء بالتزاماته للمستفيدين من خدمات التأمين الاجتماعي، فالتقاعد المبكر استثناء من الأصل العام السابق اقتضته ضرورة لها قيمتها واعتبارها، والضرورات تبيح المحظورات، كما أن الضرورة تقدر بقدرها.ومن ثم لا يجوز للمشرع في استعماله لسلطته التقديرية أن يتوسع في هذه الحالات المستثناة ليصبح التقاعد المبكر أصلا عاما، كما جاء في مذكرة المشروع الإيضاحية أنه "استجابة لمطالب بعض المواطنين" وليس عامتهم، "بما يتواءم وظروفهم الحياتية" كما جاء في هذه المذكرة، بما يفتح الباب لإساءة هذا البعض من المواطنين لهذه المكنة القانونية التي أتاحها لهم مشروع القانون من ناحية، طالما لم يحدد القانون ضرورة اجتماعية أو صحية، بل ترك المشرع ذلك لمطلق اختيار المواطن، بحيث أصبح مصير نظام التأمينات الاجتماعية في قدرته على الوفاء بالتزاماته، ومصير المؤمّن عليهم الآخرين رهناً بإرادة واختيار بعض المواطنين، ودون نظر أو اعتبار لتأثير التقاعد المبكر على الحياة الاجتماعية أو التنمية أو الثروة البشرية. التضامن الاجتماعيوالتقاعد المبكر ليس منطويا على مخالفة لأحكام المادة (11) من الدستور فحسب، بل مخالفا كذلك للتضامن الاجتماعي الذي يقوم عليه التأمين الاجتماعي، ومخالفا لأحكام المادة (7) من الدستور فيما نصت عليه من مقومات أساسية للمجتمع منها "أن التعاون والتراحم صلة وثقى بين المواطنين"، وفيما نصت عليه المادة (25) من الدستور من أن "تكفل الدولة تضامن المجتمع في تحمل الأعباء والأحكام الناجمة عن الكوارث والمحن العامة".والتضامن الاجتماعي كما عرفه القضاء الدستوري يعني وحدة الجماعة في بنيانها وتداخل مصالحها لا تصادمها، واتصال أفرادها ببعض ليكون بعضهم لبعض ظهيرا، فلا يتفرقون بددا أو يتنافرون طمعا أو يتنابذون بغيا، وهم بذلك شركاء في مسؤولتيهم قبل الجماعة، لا يملكون التنصل منها أو التخلي عنها، وليس لفريق منهم أن يتقدم على غيره انتهازا أو أن ينال قدرا من الحقوق يكون بها عدوانا أو أكثر علوا، ولا يحرم من بعضها بهتانا، بل يتعين أن تتضافر جهودهم لتكون لهم الفرص ذاتها التي تقيم لمجتمعاتهم بنيانها الحق. (2/ 9/ 1995- ق40 لسنة 16ق).وقد حدد قضاؤنا الدستوري أهداف نظام التأمينات الاجتماعية وفلسفته بأن القانون يعتبر منهيا للتوافق في تحقيق التوازن في علاقات الأفراد بعضهم ببعض، وبأوضاع مجتمعهم والمصالح التي يتوخاها إذا زاغ المشرع ببصره عن تحقيق ما يكفل إسهام أكبر عدد من بينهم لضمان أكثر المصالح والقيم الاجتماعية تعبيرا عن النبض الاجتماعي لإرادتهم ليكون القانون طريقا لتوجههم الجماعي.وقد زاغ مشروع القانون ببصره عن تحقيق التوازن في علاقات الأفراد بعضهم ببعض وبأوضاع مجتمعهم والمصالح التي يتوخاها بما يكفل إسهام أكبر عدد من بينهم لضمان أكثر المصالح والقيم الاجتماعية تعبيرا عن النبض الاجتماعي لإرادتهم.كما تخلت الدولة عن مسؤوليتها في تكافل تضامن المجتمع في تحمل الأعباء الناجمة عن الكوارث والمحن العامة التزاما بأحكام المادة (25) من الدستور، عندما زاغ مشروع القانون ببصره عن الكارثة التي سوف تحدث إذا عجز نظام التأمينات الاجتماعية عن الوفاء بالتزاماته قبل سائر المؤمّن عليهم، بسبب السياسة التشريعية التي اتبعتها الدولة خلال السنوات الماضية، وآخرها مشروع قانون التقاعد المبكر الذي تم رده والذي من شأنه أن يقوض بنيان هذا النظام.
مذكرة المشروع الإيضاحية أكدت أنه لا يجوز للمشرع باستعماله لسلطته التقديرية أن يتوسع في الحالات المستثناة