جاءت أوامرهم في شكل نصائح متكررة بأن عليهم أن يستبدلوا كبار السن من صناع القرار بالشباب، خصوصا وهم في منطقة أكثر من نصفها هم دون الخامسة والثلاثين، وما لبثوا أن سمعوا لهم فزينوا "فترينات" وزاراتهم ومؤسساتهم ومجالس الشورى وغيرها من المجالس المعنية بإدارة الدولة ومؤسساتها، حتى أن تلك النصيحة وصلت إلى القطاع الخاص العائلي جداً، فحل الشباب محل الآباء والأجداد، كثير من هؤلاء الشباب هم نتاج المدارس الخاصة التي فاض بها سوق التعليم بعد أن أصبح العلم سلعة تخضع للعرض والطلب! وبعد أن أصبح عدد المدارس الخاصة أكثر من محال البقالة! كثير من القادمين الجدد هم خريجو أعرق الجامعات في الولايات المتحدة وأوروبا، وآخرون اشتروا الشهادة كما يشترون ساعة الرولكس أو سيارة البورش كيان! حيث زينت تلك الشهادات غرف المعيشة في البيوت والقصور الفخمة وبعض المكاتب، أذكر تلك التي وضعت خلف مكتبها شهاداتها المتنوعة كل في إطار شديد الأناقة، وحين نظر أحدهم إلى تلك الشهادات وراح يراجعها تساءل: أين شهادة الابتدائية فلم يتبق إلا أن تضاف إلى قوائم "النياشين" تلك؟! ووضعت صوراً للشابات والشبان في إطار جميل من الفضة فوق الموائد كلها تحمل صوراً لحفلات التخرج في العواصم والمدن العريقة.
قيل إن الشباب قادمون فاستعدوا، هم من سينقذ هذه الأوطان والبشر من كوارث التحولات الاقتصادية وانخفاض أسعار النفط (المصدر الوحيد للدخل) وتداعيات تكاليف الحروب الحديثة الباهظة التي تخاض أحيانا تحت أسماء مختلفة، وبالنيابة عن الآخرين الذين وقفت شعوبهم ضد أي تهور للدخول في حروب لم تأت عليهم إلا بمزيد من العجز في الميزانيات والتكاليف التي تدفعها أجيال، إلا إذا كانت الفواتير تدفع من جيوب الآخرين!جاء الشباب ليتحول العمل بسرعة تتماشى مع التطورات التكنولوجية الحديثة لا ورق ولا أقلام، الألواح الحديثة فقط والهواتف الذكية وكثير من اللغة الإنكليزية وقليل أو لا وجود للغة العربية، ربما لأن لدى بعضهم تصوراً أن اللغة هي سبب تخلف مجتمعاتهم، أو ربما لجهل متجذر باللغة والتاريخ وحضارة بلدانهم، في معظمهم لا يعرفون عن تاريخهم كما يعرفون عن آخر ألبومات شاكيرا، ولم يدرسوا إلا أن توماس جفرسون والآباء المؤسسين الأول للولايات المتحدة هم من بدؤوا عملية تحديث المجتمعات لتصبح أكثر ديمقراطية ومشاركة وحرية واحتراماً للحقوق، وهم من سوّق لهم في روايات أحادية للتاريخ الأميركي، وتواريخ كل الدول المستعمرة. وفيما كان لدى الأقدمين من آباء وأجداد بعض الحكمة والخبرة والذكاء الفطري أحياناً، جاء بعض هؤلاء الشباب ليكنسوا كل ذلك، ولينظروا بعين الإعجاب والرضا للقادم من الخارج في شكل من أشكال عقد العبيد التاريخية، فالعبد يغرم بمستعبده وبعضهم لا يهوى سوى تلك التي كانت دولاً مستعمرة لسنين وسنين لبلدانهم وغيرهم من بلدان العالم.الشباب القادمون من تلك الجامعات العريقة لم يفقهوا إلا ما درسوه في الكتب، لم يستطيعوا أن يخرجوا من أغلفة الكتب وأوراقها أو من صفحات الشبكة العنكبوتية إلى واقع بلدانهم ومجتمعاتهم، فمعظمهم يعيشون في بلدانهم بأجسادهم أما عقولهم ومشاعرهم فتركوها خلفهم بين مباني تلك الجامعات البعيدة. ينظر بعضهم بشديد الاحتقار إلى خريجي الجامعات المحلية أو حتى بعض كبار السن المتمرسين في وظائفهم ويعملون جاهدين على التخلص منهم، فعند كل معضلة هناك خبير يقف عند خط الهاتف ينتظر مكالمة وعرضا سخيا للحضور لإنقاذ هؤلاء "المتخلفين" من وقع تخلفهم! أمر مثير كم تحول الشباب كما سبقتهم إلى ذلك النساء في مجتمعاتنا إلى مجرد أدوات للتفاخر في المنتديات العالمية وفي الأرقام والإحصاءات والوفود الرسمية، وكم أصبحوا هم، كما الخبراء الأجانب، مجرد طبقة من المتعالين على وجع مجتمعاتهم، ينظرون لها من فوق السحب ويقهقهون بسخرية عندما يشتكي البعض ضيق ذات اليد أو الحاجة إلى وظيفة أو ضرورة أن توفر الدولة التعليم والصحة وغيرها من الخدمات الأساسية كأحد مسؤلياتها تجاه مواطنيها، ويجلسون على موائد العشاء في المطاعم الفاخرة يأكلون السوشي مع القادمين من مؤسسات برتنودز بالنصائح التي ستدفع ثمنها كل الأجيال القادمة، يقرعون الكؤوس ويضحكون مع الضيوف القادمين المرتدين للبدلات الأنيقة حاملي أقلام "المون بلاا". نعم للشباب ولكن دون الخبرة والحكمة فهذه المجتمعات إلى مزيد من الشتات والتمزق!* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية
مقالات
مرحى لنا شبابنا المستشرقين!
30-07-2018