في الفصل الأول من «مراجعات في الثقافة العربية» بعنوان «تجليات الوعي الثقافي»، يتكلّم المؤلف عبدالسلام المسدي عن «شيء ما» في الثقافة العربية جعل التمييز بين الذات والصفة أمراً صعباً جداً، ويسأل في الفصل الثاني، «ثقافة الانتماء»، إن كان من الحصافة أن ننعت الثقافة بأنها عربية كما لو أننا حددنا لها جنسيتها بالمعنى الذي تحمله بطاقات الهوية وجوازات الأسفار. في رأيه، اللغة تحضن الثقافة، «وكثيرٌ يظنون أن الثقافة تحضن اللغة، إذا انسجمت الثقافة واللغة تواءم الفكر والتاريخ، وإذا تنافر مورد العلم ومنهل اللسان فإما أن يتمرد الفكر فيأبق، وإما أن ينتفض التاريخ فيجفو بقسوته ويهجر بإجحافه».

Ad

أزمة ولغة

في الفصل الثالث، «سلطة المعرفة»، يرى المسدي المثقف العربي محاصراً مأزوماً وأزمته غائرة، ووفقاً له، لئن كان الإدراك سلاحاً بيد الإنسان على الكون فإنه ينقلب إلى سلاح بيد الكون على الإنسان.

أما «في السياسة المدنية» وهو عنوان الفصل الرابع، فيجد الباحث أن الأدق الحديث عن الثقافات البشرية لا الثقافة الإنسانية، بحسبه، كان الاجتهاد قبل حوادث الربيع العربي الملجأ الآمن لاستقرار الوئام بين السياستين المدنية والشرعية، وكان السؤال: هل نرضخ التاريخ إلى النص أم نطوّع القياس وفقاً لإملاءات التاريخ؟ وعندما انتفض بعض العرب، أمسى كل شيء في السياسة «لا يتحدد إلا بمسافته من الدين في تقاذف قصيّ بين الاحتضان المذهبي والرفض الأيديولوجي، وبات الخطاب حول السياسة والدين لا يُصاغ إلا من خلال إحدى الدائرتين: إما دائرة الدين وإما دائرة السياسة، وغدا كالمتعذر أن يُصاغ خطابٌ ويُصغى إليه من خارج الدائرتين بمرجعية فكرية خالصة».

في الفصل الخامس، «في اللغة وعلم الخطاب»، يقول المسدي إن الثقافات تلوذ باللغة «لتتخذها رمزاً للهوية الحضارية عالي الدلالة»، ورسم العرب ذلك في الخطة الشاملة للثقافة العربية التي أجمعوا عليها تحت مظلة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، حين قرروا في عام 1982 وُجُوب العمل على تعميم استعمال اللغة العربية في التعليم ووسائل الإعلام والثقافة، باعتبار أن اللغة مستودع الهُوية والأصالة.

الجاحظ ومعركة الإنصاف

يرى الباحث في الفصل السادس، «ثقافة الفن القولي»، أن سلطة الإعلام الفوري زعزعت الأركان التقليدية التي يقوم عليها التواصل باللغة، وفي الفصل السابع، «الجاحظ ومعركة الإنصاف»، يبحث المؤلف في الجاحظ الذي يتبوأ منزلة مزدوجة في تاريخ الثقافة العربية: تاريخية وحضارية وثائقية؛ ففي مؤلفاته مادة لمن يؤرخ للفرق الدينية والمذاهب الفلسفية والتيارات الأيديولوجية، ومادة تخص الباحث في خصائص التفكير العربي منذ ازدهار حضارته العباسية، ومادة غزيرة لمُؤرخي الأدب والنقد وسائر العلوم اللسانية والجمالية، هذا ما دفع بعض الباحثين إلى اعتبار الجاحظ رائد المدرسة الإنسانية.

«التوحيدي بين العقل واللغة» عنوان الفصل الثامن ويتناول فيه المسدي أبا حيان التوحيدي بالبحث والتمحيص، فهو شخصية صراعية بسلوكه، وخلاقة بحديثه عن نفسه، وإشكالية ببوحه وإفاضته. يقول إن سيرة التوحيدي نص يُقرأ، «لكنه نص سيميائي قبل أن يكون نصاً لغوياً، هي نص مفرداته الوقائعُ وقرائنه شهادات الآخرين عليه، ودواله بعض ما أفاض به هو نفسه عن نفسه وما أفاضت به نفسه عن نفوس الآخرين من حوله. وكل ترجمة لسيرة أبي حيان تأتينا بها المصادر الأمهات فإنما هي نص لغوي لا يفيد أن نقرأه إلا بعدسات المجهر السيميائي حيث للدوال مدلولات، وللمدلولات مدلولات أخرُى هي من الثاوي وراء النص ويُستنبط مما وراء اللغة لإجلاء المسكوت عنه».

ابن خلدون وقوانين التاريخ

يقول الباحث إن «مقدمة» ابن خلدون جسمت فعلاً المنظومة الإبيستمية في تاريخ الحضارة العربية. ويتابع في الفصل التاسع والأخير بعنوان «ابن خلدون وقوانين التاريخ»: «إذ كانت جامعة لشتات الرؤى الفرعية، ومستوعبة لمقولات الفكر النقدي مع غزارة تأليفية هي وليدة القدرة على التجريد والطاقة على الاستقطاب المعرفي الشامل».

يضيف المسدي: "فإذا بابن خلدون من حيث ينظم المعارف ويتحسس نواميسها الخفية وينقد مناهجها ويفحص ثمارها، بل من حيث يستكنه أصول الإدراك اليقيني عموماً، يبتكر علماً جديداً فيضع أسسه لا بالاتفاق أو التضمين وإنما بالوعي الصريح والتبصر المحكم”.