التردد الممزوج بالخوف، بهذا الشعور تعاطت الأوساط الليبرالية في موسكو أو ما تبقى منها حتى اليوم مع لقاء ترامب ببوتين، حيث يفقد هذا البلد الأفضل والألمع بين أبنائه منذ عودة بوتين منتصراً إلى الكرملين في عام 2012.فمنذ ذلك الحين تخسر الطبقات الليبرالية الوسطى بشكل متواصل نفوذها في وجه دعاية الكرملين القوية، فما عادت القيم الديمقراطية ومحاربة الفساد جذابة بقدر نهضة الإمبراطورية الروسية العظيمة، كذلك استُخدمت فظائع الحرب في سورية بمهارة ضد المتظاهرين في موسكو، فلا ينفك التلفزيون الروسي يكرر "نعي ماهية الثورة. هل نريد إراقة الدماء في شوارعنا؟". وأُضيفت إلى هذه الدعاية عمليات قمع انتقائية، إذ تعلّمت الحكومة منذ الحقبة السوفياتية أن الوطنية طبق يجب أن يُقدّم مع الخوف.
لكن الليبراليين والمثقفين الميالين إلى الغرب خسروا أيضاً لأن مجموعة من الحجج المنطقية التي رددوها دُحضت فجأة، فقالوا إن بلداً يملك اقتصاداً ضعيفاً نسبياً يعجز عن شن حرب من دون مواجهة العواقب، إلا أن بوتين شن حرباً ضد أوكرانيا ولم تحقق العقوبات الغربية الغاية منها في الاقتصاد الروسي، فأعطى بوتين بكل بساطة الشركات المزيد من العقود من القطاع الصناعي-العسكري، ضامناً بالتالي ولاءها وملزماً إياها بالسرية.بالإضافة إلى ذلك أثار هذا الصيف حتى اليوم الكثير من الذكريات السيئة، فكرر كأس العالم النجاح المذهل الذي حققته الألعاب الأولمبية في سوتشي عام 2014، وبلغ هذا النجاح حداً كبيراً، حتى إن روساً كثراً يعتقدون أنه هو ما دفع بوتين إلى ضم القرم، أما حجة الأشخاص المنطقيين الأخيرة (لننسَ الديمقراطية)، فكانت أن البلد لا يستطيع أن يستمر ويزدهر مع حوكمة بالغة السوء وبيروقراطية فاشلة جداً.لكن كثيرين يجيبون اليوم: "لدينا بوتين. عندما تخفق المسائل، يطرح بوتين الحل ويقدّم خطوة تكتيكية ذكية أخرى، فينقذ الموقف". هذه الرسالة التي تروج لها حكومته، والمشاعر التي يتشاطرها كثيرون في روسيا بصدق، فخلال السنوات الأربع الماضية ازدادت سيطرة بوتين على نظام الكرملين، الذي لطالما تمحور حول شخص واحد، لكنك لا تستطيع التدخل في انتخابات الدولة الأقوى في العالم وتنجو بفعلتك. بعد عام 2016 ضربت الولايات المتحدة روسيا بقوة، ففرضت عليها عقوبات، كذلك شهدنا مطاردة عالمية للقراصنة الروس المعروفين بعلاقاتهم مع أجهزة الاستخبارات ترافقت مع الكثير من عمليات الاتهام والتنديد، التي بدأت بإدانة قراصنة جهاز الأمن الفدرالي الروسي في قضية قرصنة ياهو وانتهت مع فضح روبرت ميلر 12 عميلاً في مديرية المخابرات الرئيسة الروسية.تظهر التأثيرات كل ذلك جلياً في موسكو، فقد شهدت وحدة الإنترنت الرئيسة في جهاز الأمن الفدرالي الروسي، مركز أمن المعلومات، عمليات تطهير عدة، كذلك أُرغم رئيسها على التقاعد وحوكم اثنان من معاونيه، أما الشركات التي عُنيت في مجتمع تكنولوجيا المعلومات في روسيا بالأمن عبر الإنترنت، فخسرت قدرتها على ولوج الأسواق الغربية، في حين يسعى أعضاء النخبة الحاكمة الثرية إلى الحد من وجودهم في الغرب. لكن هذه التأثيرات كان لها الانعكاس الأكبر على المؤسسات الروسية، التي كان بوتين نفسه أول مَن هاجمها، وعلى الشركات الروسية، التي كان بوتين منهمكاً في ترويعها.خلال الأسابيع التي سبقت لقاء هلسنكي، راح مسؤولون روس رفيعو الشأن يقدّمون الاقتراحات إلى نظرائهم الغربيين. شملت هذه استعداد موسكو لإنهاء الصراع مع الغرب. كانوا يعملون بدقة على تمهيد الطريق، إلا أن هدفهم كان مغايراً لما حدث في هلسنكي، فقد غالى بوتين بكل بساطة، بعدما استفزه ترامب، متنعماً علانية بمكانته التي لطالما سعى إليها كقائد لقوة عظمى، مكانة أكّدها الرئيس الأميركي.لكن السؤال الذي ينشأ: أما زال الكرملين يضم أناساً يتجرؤون على إدراك أن لقاء هلسنكي شكّل فرصة ضائعة للبلد، فرصة هُدرت من أجل غرور بوتين أو على الأرجح من أجل أن يستمتع عميل الاستخبارات السوفياتية السابق بنجاحه؟* أندريه سولداتوف*«ذي أتلانتيك»
مقالات
كيف بدد بوتين انتصاره في هلسنكي؟
31-07-2018