إن التقدم التكنولوجي الذي شهدته السنوات الأخيرة لم يلفت انتباه الناس إلى مزايا الكم الهائل من المعطيات فقط، بل أيضا إلى ضرورة التكيف مع الخطر الذي تشكله هذه المعطيات على خصوصياتنا وحرياتنا المدنية وحقوق الإنسان، ولهذا الموضوع صلة أكثر بآخر مصدر لهذه المعطيات: أجسامنا.

وتقوم السلطات المكلفة بتطبيق القوانين عبر العالم بخلق وسائل تكنولوجية واستعمالها للتعرف على هويتنا من خلال مقاييسنا الحيوية بما في ذلك الوجه والبصمات والحمض النووي الصبغي والصوت والقزحية وطريقة المشي، وتستعمل معايير تحديد الهوية هذه، التي طالما استعملت في جوازات السفر وأثناء عبور الحدود، لأغراض أخرى.

Ad

ومنذ أعوام سمحنا للحكومات والشركات أن تجمع معطيات المقاييس الحيوية الخاصة بنا كلما طلبنا الحصول على رخصة سياقة أو تأشيرة سفر أو التجنيس أو بعض الوظائف، أو حتى عند الذهاب إلى حديقة ملاهٍ، وأصبحنا نستعمل بصماتنا أو وجوهنا أكثر فأكثر لفتح هواتفنا الذكية وأداء ثمن مشترياتنا والصعود على متن الطائرات.

والحماية ضد السرقة أمر واضح: فما الجدوى من امتلاك هاتف أو سيارة أو تذكرة إذا كان مالكها الشرعي فقط من يستطيع تشغيلها؟ وعلاوة على كل هذا، فالمقاييس الحيوية يمكنها حمايتنا من سرقة هوياتنا.

وهناك عوامل تبرر خلق أكبر مشروع في العالم للمقاييس الحيوية، ويتعلق الأمر بحل متعدد الوسائل (القزحية والبصمات والوجه) الذي ترك تأثيرا على أكثر من مليار هندي، ويعتبره رئيس إينفوسيس، ناندان نيليكاني، الذي ترك وظيفته من أجل خلق الهذا النظام، المعروف باسم آدهار، سببا في توفير الحكومة الهندية ما يقارب 9 مليارات دولار عن طريق إقصاء الهويات المزدوجة والمزورة في لوائح الحكومة للمستفيدين.

وبفضل أدهار، استعمل أكثر من نصف مليون شخص بطاقات هوياتهم الرقمية بشكل مباشر لفتح أرصدتهم البنكية، لتتمكن الحكومة من وضع أكثر من 12 مليار دولار دون الخوف من عمليات الاحتيال أو السرقة أو– وهو أمر يهم المرأة على وجه الخصوص- عندما تتعرض المرأة للعنف من جراء تعاطي الرجل الخمر مما يؤدي غالبا إلى ضخ مفاجئ للمال.

وبالنسبة إلى العديد من سكان الهند الفقراء والقاطنين في قرى لم تدمج بعد في الخريطة أو في الأحياء الفقيرة، فإن بطاقة الهوية الرقمية تمنحهم هوية رسمية، تماما كما هو الشأن بالنسبة إلى الدول المتقدمة، حيث يقوم مقام ذلك رقم شهادة الازدياد والضمان الاجتماعي.

لكن المقاييس الحيوية تزيد من احتمالية بانوبتيكون، نظرية عالم الواقع المرير المكشوف، ولا تحاول الصين التستر على استعمالها للمقاييس الحيوية والذكاء الاصطناعي لمراقبة سكانها، وما لا يعرفه الكثير هو استعمال المقاييس الحيوية بشكل متقدم في الديمقراطيات الليبرالية.

وفي الولايات المتحدة الأميركية أثبتت دراسة قام بها مركز الخصوصيات والتكنولوجيا في مركز القانون لجامعة جورج تاون عام 2016 أنه تم حفظ بيانات متعلقة بملامح شكل الوجه لأكثر من 117 مليون أميركي نصفهم تقريبا بلغ سن الرشد، في قاعدة البيانات الأميركية المتعلقة بتطبيق القانون، التي يمكن لمكتب التحقيقات الفدرالي الاطلاع عليها، وفي الشهر المقبل سيشرع الديوان الملكي للجمارك والمداخيل في استعمال التكنولوجيا الجديدة التي تتيح التعرف على ملامج الوجه كجزء من برنامج الخروج البيوميتري الذي تستعمله حاليا المطارات في ثماني مدن

أميركية.

وفي المملكة المتحدة تم حفظ البيانات المتعلقة بملامح وجه 12.5 مليون شخص لم تثبت على الآلاف منهم أي تهمة، في قاعدة بيانات الشرطة الوطنية، في حين جمع ديوان الجمارك والمداخيل التابع للملكة أكثر من خمسة ملايين تسجيل صوتي دون أن يشعر المعنيون بالأمر بذلك، وشكل هذا تحديا لقرار أصدرته المحكمة العليا البريطانية عام 2012 والذي يتعين بموجبه على مكتب الشؤون الخارجية إلغاء المقاييس الحيوية المتعلقة بملامح الوجه والصوت للمعتقلين الذين تم إطلاق سراحهم دون ثبوت أي تهمة ضدهم، أو الذين تمت تبرئتهم وفقا للقانون الذي ينص على إلغاء الحمض النووي الصبغي والبصمات.

إن جمع المعطيات المتعلقة بالمقاييس الحيوية للأشخاص وحفظها يغيران العلاقة بين المواطنين والدولة بشكل جذري، وما كان يصطلح بتسميته "أشخاص أبرياء" أصبح الآن يسمى حسب وزير الشؤون الداخلية، أمبر رود، الذي حذر من تداعيات هذه المقاييس "أشخاص غير مدانين"، أي الأشخاص الذين لم تثبت عليهم أي تهمة بعد.

وقوبل هذا التحول بالتحدي، ففي المملكة المتحدة، تواجه شرطة ساوث ويلز والشرطة الميتروبولية،على التوالي، منظمة مراقبة الأخ الأكبر أمام القضاء، لاعتمادهم معايير تتيح التعرف على الهوية من خلال ملامح الوجه بطريقة أوتوماتيكية.

وفي الولايات المتحدة تخلت مدينة أورلاندو وفلوريدا على اختبار برنامج الحاسوب لشركة الأمازون الذي يتيح التعرف على الهوية من خلال ملامح الوجه.

ويواجه نظام المقاييس الحيوية في الهند مشاكل قضائية أيضا، فرغم أن الحكومة جعلت الخضوع لنظام أدهار أمرا اختياريا، فإن النظام إجباري لكل شخص يرغب في الحصول على خدمات حكومية أو فتح حساب بنكي أو الحصول على عقد لاستعمال الهاتف النقال، إلا أن إجبار المواطن الهندي على الخضوع لنظام أدهار أصبح أمرا مخالفا للقانون في عام 2017، عندما أصدرت المحكمة العليا قرارا أعلنت فيه أن "الحق في الحفاظ على الخصوصيات..(يعتبر) جزءاً أساسياً في حق الحياة والحرية الشخصية، ودافعت المحكمة عن حق الحكومة في الحد من حقوق الحفاظ على الخصوصيات لأسباب قاهرة، مثل الأمن الوطني والوقاية من الجرائم والرخاء الاجتماعي، على أساس أن يكون ذلك بشكل عقلاني ويتماشى مع الهدف المتوخى تحقيقه.

والأمر المقلق أكثر هو أن نظام أدهار ليس آمنا، ففي يناير 2018 دفع مراسلون لدى جريدة "ذا تريبيون" في الهند مبلغ 500 روبية (أقل من 8 دولارات) للحصول على كلمة الدخول وكلمة السر التي مكنتهم من الاطلاع على اسم وعنوان كل شخص مسجل في هذا النظام، بالإضافة إلى رمزه البريدي وصوره ورقم هاتفه وعنوانه الإلكتروني، وبمبلغ إضافي لايتعدى 300 روبية، كان بإمكان المراسلين نسخ البطاقات الوطنية لكل شخص والشروع في استعمالها.

فسنوات الاختراق المكثف للمعطيات في الولايات المتحدة الأميركية (الذي ترك تأثيرا على شركات مثل تارغيت وياهو ولينكيدين وإنتيل وأيضا مكتب الحكومة الفدرالية لإدارة الموظفين)، وتقارير أصدرتها شركات مثل فيسبوك وغوغل التي أعطت معلومات شخصية لمطوري البرامج وأطراف ثالثة أخرى، لم تكد كلها تحدث تغييرا ملموسا، وهذا يدل على نقص في الحوافز: فعملية الاحتيال التي تطول المعلومات المتعلقة بالهوية تسبب المتاعب وتكلف الكثير من الوقت، وفي نهاية الأمر، تتحمل البنوك وشركات البطاقات البنكية أي عبء مالي ناتج عن هذه العمليات.

إنه لعالم مختلف من الألم عندما تكون معطياتنا البيوميترية معرضة للخطر، فبخلاف أسمائنا أو كلمات السر لا يمكن تغيير معطياتنا البيوميترية، كما أنه يصعب تصحيح الأخطاء فيها، وعندما ترتبط هذه المعلومات بمعطيات تتعلق بنا (على المستوى المادي والمهني والاجتماعي)، يمكن أن تساعد معطياتنا البيوميترية في القيام بعمليات حسابية على الكمبيوتر وبالتالي استعمالها لحرماننا من القروض البنكية والتأمينات الصحية والوظائف وللتعرف على ميولاتنا الجنسية والسياسية، والتنبؤ باحتمالية ارتكابنا للجرائم، كل هذا دون علمنا.

إن امتلاك هوية فريدة من نوعها قد تكون نعمة، إلا أن علينا معرفة وتفادي الطرق العديدة التي قد تجعل من هذه النعمة نقمة.

* آن ماري سلوتر وستيفاني هير

* آن ماري سلوتر رئيسة ومديرة تنفيذية لـ"نيو أميركا"، وستيفاني هير باحثة ومذيعة وزميلة في منظمة "فورين بوليسي إنترابتيد".

«بروجيكت سنديكيت، 2018»

بالاتفاق مع «الجريدة»