كلما زُرت لندن يكون المسرح حاضراً بتجدد عروضه الموسيقية الباهرة، وجمهوره العالمي الحاشد. ويكون حاضراً بقدرته اللافتة على جذب ولمِّ البشر، كل البشر، من شتى بقاع الأرض حول لحظة سلام وفكر وفن وإنسٍ. بشرٌ من مختلف الأعمار والسحن والأشكال والديانات والمذاهب والقناعات والرطانات يجتمعون حول حكاية وحدث فنيين بشكل جميل يدعو للتأمل، في زمن صار التوحش والبغضاء والحرب والدم والموت تمثل الشأن اليومي المخيف والعابر، وأصبح السلام الإنساني البشري مطلبا وحلما لكثير من البشر.المسرحية الغنائية «الملك وأنا-The King And I»، المعروضة في لندن على مسرح «London Palladium»، والتي قُدمت لأول مرة على مسارح برودواي عام ١٩٥١ من تأليف ريتشارد رودغرز وأوسكار هامرستين، وتحكي قصة أرملة من ويلز اسمها آنا ليونووينز تسافر إلى بانكوك في ستينيات القرن التاسع عشر، لتصبح معلمة لأبناء ملك سيام، تأتي بشكل موسيقي فكاهي. لكن ما لفت نظري هو الصيغة الهزلية التي قدم بها المخرج شخصية الملك، إضافة إلى التفوق والاستعلاء الواضحين في شخصية المدرِّسة الإنكليزية، وكل ذلك يأتي بشكل هزلي يعتمد على المشهد المسرحي المدروس، وفي سياق كامل العمل، ما يثير تجاوب الجمهور معه، على اختلاف وعيه وانتمائه القومي والعرقي، بكل بساطة وتقبل وسرور، ودون أي حساسية أو انفعال أو تأويل.
أكاد أكون متأكداً لو أن هذه المسرحية عُرضت على خشبة أحد المسارح العربية، وكان الملك من قُطر عربي والمعلمة من قُطر آخر، لثارت نخوة العربي ضد العربي، واعتُبر الأمر إهانة من ذلك البلد للبلد الآخر، ومؤكد لقُطعت العلاقات الدبلوماسية، ومُنع الشعبان من زيارة بعضهما البعض! وإذا أشار هذا الأمر لشيء، فإنما يشير إلى أهمية المسرح، وقدرته على مسِّ وعي الناس والتأثير به، وهذا ما يجعلني أتحسَّر كلما زرت مسرحاً حياً وشاهدت عروضاً مستمرة لعشرات السنين، بل إن الأمر يصل إلى ما يربو على القرن في قليل من العروض!لن أتكلم عن الأقطار العربية، لكن سأكتفي بالحديث عن الكويت، فلماذا انتعش وازدهر المسرح عندنا في أواخر الستينيات والسبعينيات وحتى منتصف الثمانينيات، وتوقفت العجلة عند تلك الفترة؟ ولم نزل نتغنى بتلك العروض وذاك المسرح وأولئك الأبطال! فالمسرح في الكويت يرتكز على تاريخ كبير وعلى إرث مسرحي محلي وعربي كبيرين، فلماذا لا يُعاد النظر في مسألة إحياء المسرح؟ وخاصة أننا في الكويت جددنا البنى التحتية بصروح عصرية رائعة، مثل: مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي، ومجمع الشيخ عبدالله السالم الثقافي، وتجربة الموسم الماضي لأنشطة مركز الشيخ جابر الأحمد تؤكد بشكل واضح متانة العلاقة بين الجمهور الكويتي والخليجي والعروض المسرحية والغنائية! فهل تجديد حياة المسرح يعتمد على التحرك الثقافي الرسمي من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل والمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، بزيادة الدعم المالي المخصص للفرق المسرحية الأهلية؟ وهل الدعم المالي هو العنصر الوحيد القادر على إحياء المسرح؟ أم أن الأمر أعقد بكثير من ذلك؟ وأنه مثلما يعتمد على البنية التحتية والمال، فهو يستند إلى العقول العاشقة للمسرح، وعلى سقف الحرية الممنوح لها، وأخيراً على العمل المسرحي المبدع والجماعي المؤمن برسالة وأهمية المسرح، كونه واجهة مشرقة ومعبِّرة عن تقدم كل أمة من الأمم.نهض المسرح في الكويت حين تزاوج الظرف الموضوعي مع الظرف الذاتي، حين كان هناك جيل من عاشقي المسرح، وقيادي مؤمن بدور المسرح، ومشجع ودافع له، وسقف حرية عالٍ لا يلتفت إلا لمصلحة الأمة، وأخيراً جمهور متعطش للعمل الجيد، وناقد ونابذ للعمل الهابط والسوقي.نعم، المسرح في الكويت رهان كبير، وما أحوجنا له كما لم نكن في أي فترة سابقة.
توابل - ثقافات
المسرح وجه أمة!
01-08-2018