الاستراتيجية العظيمة لترامب

نشر في 01-08-2018
آخر تحديث 01-08-2018 | 00:09
نهج الصفقات المتعلق بالعلاقات الدولية، الذي تعتمد عليه استراتيجية ترامب، من المرجح أن يستمر حتى بعد خروجه من الرئاسة بفترة طويلة، فالأصدقاء والأعداء على حد سواء يجب أن يعتادوا أميركا التي تسعى إلى تحقيق مصالحها وتعمل ما بوسعها بغض النظر عن التكلفة لمنع تدهورها الحاد.
 بروجيكت سنديكيت إن عجز الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن التفكير بشكل استراتيجي يقوض العلاقات الطويلة المدى ويقلب النظام العالمي رأسا على عقب ويعمل على تسريع انحدار النفوذ العالمي لبلاده وذلك طبقا لأعداد متزايدة من الأفراد الذين يتبنون هذا الطرح، لكن هذا التقييم ليس بالوضوح الذي يدعيه أولئك الذين يؤمنون به، وخصوصاً الخصوم السياسيين والنقاد في وسائل الإعلام الأميركية الرئيسة.

لقد كان الانحدار النسبي لأميركا موضوعا ساخنا قبل تولي ترامب مهام منصبه بوقت طويل، حيث بدأت هذه العملية عندما بدأت الولايات المتحدة الأميركية والتي تعزز دورها عندما خرجت من الحرب الباردة على أنها القوة العظمى الوحيدة في العالم بتجاوز قدراتها وإجهاد نفسها بشكل كبير، وذلك من خلال توسيع انتشارها العسكري وتكثيف التزاماتها الاقتصادية والأمنية عالميا.

لقد ظهر تجاوز أميركا الإمبريالي قدراتها لأول مرة إبان إدارة الرئيس رونالد ريغان، حيث توسعت تلك الإدارة بشكل مكثف في إنفاقها العسكري، ووصل ذلك إلى مستويات الأزمة في فترة الغزو الذي قادته الولايات المتحدة الأميركية للعراق سنة 2003 واحتلالها اللاحق لذلك البلد إبان حكم جورج بوش الابن، حيث كانت تلك لحظة فارقة تسببت في ضرر لا يمكن إصلاحه للمكانة الدولية لأميركا.

أما خلال فترة حكم الرئيس باراك أوباما وتحت أنظاره فقد تمكنت الصين من توسيع نفوذها العالمي بشكل سريع، بما في ذلك استخدام القوة في تغيير الوضع القائم في بحر الصين الجنوبي، (بدون تكبد أي تكاليف دولية)، وعند تلك اللحظة أصبح الأمر جلياً، حيث انتهت حقبة الهيمنة الأميركية.

إن هذا يعني أننا لا يمكن أن نلوم ترامب على الانحدار النسبي لأميركا فحسب، بل إنه في واقع الأمر أيضا في وضع يؤهله لوقف ذلك الانحدار، وعلى الرغم من صعوبة توقع تصرفات ترامب فإن العديد من تحركاته الرئيسة في مجال السياسة الخارجية توحي بأن إدارته تسعى إلى تحقيق استراتيجية عظيمة وشاملة من أجل إعادة إحياء القوة العالمية لأميركا.

بادئ ذي بدء فإنه يبدو أن إدارة ترامب حريصة على الحد من تجاوز أميركا الإمبريالي لقدراتها، بما في ذلك تجنب التدخل في الحروب البعيدة والطلب من الحلفاء دفع حصتهم العادلة فيما يتعلق بالدفاع، وفي واقع الأمر فإن العديد من أعضاء الناتو لا يعملون على الوفاء بالتزاماتهم المتعلقة بالإنفاق؛ مما يجعل دافعي الضرائب الأميركيين يتحملون عمليا تكاليف دعم أمن هؤلاء الحلفاء.

إن هذه الأفكار ليست جديدة، فحتى قبل أن يقرر ترامب أن يترشح للرئاسة، كان النقاد يجادلون بأن الولايات المتحدة الأميركية بحاجة إلى تطبيق سياسة تخفيض النفقات، وذلك بالتقليل من التزاماتها الدولية بشكل كبير ونقل المزيد من أعبائها الدفاعية للحلفاء، ولكن كان على الولايات المتحدة أن تنتظر زعيما مثل ترامب الذي ينظر إلى إدارة البلد مثل إدارة شركة تجارية ولديه الرغبة في السير على هذا الطريق، حتى لو تطلب ذلك تقويض القيم التي عكست لفترة طويلة السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية.

إن تركيز ترامب على احتواء الصين- التي وصفها مدير مكتب التحقيقات الفدرالي كريستوفر راي مؤخرا بأنها تحدٍّ أكبر من روسيا وحتى في مجال التجسس- يتناغم تماما مع تلك الاستراتيجية، لقد ساعد الرؤساء الأميركيون المتعاقبون من ريتشارد نيكسون وصولا إلى أوباما الصين في صعودها الاقتصادي، لكن ترامب لا يتعامل مع الصين كشريك اقتصادي لأميركا بل كعدو اقتصادي، وذلك ما أشارت إليه صحيفة تشاينا دايلي، عن لسان حال السلطات الصينية، بالقول: "الخصم الاستراتيجي الرئيسي لأميركا".

بشكل عام فإن الرسوم الجمركية لترامب تستهدف استعادة سيطرة الولايات المتحدة الأميركية على العلاقات الاقتصادية وذلك من خلال الحد من العجز التجاري المتزايد مع الأصدقاء والأعداء على حد سواء، وتوطين الأنشطة الاقتصادية مجددا وما يصاحب ذلك من وظائف، ولكن لم يعد سرا القول إن الرسوم الجمركية تستهدف الصين، وهي بلد يعمل منذ فترة طويلة على تحدي أحكام التجارة الدولية والانخراط في ممارسات عدائية.

في الوقت نفسه يعمل ترامب على التحقق من فشل الصين في اللحاق بركب الولايات المتحدة تقنياً، وعلى وجه الخصوص تسعى إدارته إلى إحباط برنامج "صنع في الصين 2025"، وهو برنامج العمل الذي أعلنته الحكومة الصينية سنة 2015 من أجل تأمين هيمنتها العالمية على عشر صناعات استراتيجية وذات تقنية عالية، وذلك من الروبوتات وصولا إلى المركبات التي تعتمد على الطاقة البلديلة.

يبدو أن النشاطات الدبلوماسية لترامب تستهدف إحراز تقدم فيما يتعلق بهذه الرؤية الاستراتيجية الكبرى لوقف الانحدار النسبي لأميركا علما أنه حاول استرضاء القادة السلطويين، وذلك من كيم يونغ أون في كوريا الشمالية وصولا إلى فلادمير بوتين في روسيا، وذلك من أجل تقديم تنازلات، وهي مقاربة حظيت بقدر كافٍ من الانتقادات، ولكن مجاملات ترامب لم تترجم إلى تملق.

على سبيل المثال، وعلى الرغم من الضجة التي أثيرت بسبب تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية سنة 2016، فإن الحقيقة هي أنه منذ تولي ترامب مهام منصبه طردت الولايات المتحدة الأميركي دبلوماسيين روسا، وأغلقت قنصلية روسية وفرضت ثلاث جولات من العقوبات على ذلك البلد، وتهدد إدارته حاليا بتطبيق عقوبات تتجاوز نطاق البلد من أجل منع البلدان الأخرى عمل صفقات دفاعية مهمة مع روسيا التي تعتبر من المصدرين الرئيسيين للأسلحة.

لم يجامل ترامب أي قائد أجنبي أكثر من الرئيس الصيني تشي جين بينغ الذي وصفه بأنه "رائع" و"رجل مهذب عظيم"، ولكن مرة أخرى عندما رفض تشي أن يستجيب لمطالب ترامب، لم يتردد الرئيس الأميركي بالرد مستخدما التكتيكات الصينية، بما في ذلك التغيير المفاجئ للمواقف التفاوضية والتصعيد غير المتوقع للتوترات التجارية.

حتى المقاربة المباشرة لترامب مع كوريا الشمالية تقوض الموقف الصيني، وذلك من خلال تجاوزه، فترامب محق بالقول إن التوصل إلى نقلة نوعية في العلاقات الأميركية– الكورية الشمالية هي أهم من تأمين الحصول على نزع تام للأسلحة النووية، ولو استطاع ترامب احتواء كوريا الشمالية وهي الحليف العسكري الرسمي الوحيد للصين فإنه سيصار إلى إعادة تشكيل الوضع الجيوسياسي في شمال شرق آسيا، وسيصبح الصعود المنعزل للصين أكثر وضوحاً من أي وقت مضى.

إن هناك الكثير من المشاكل في أساليب ترامب، فأسلوبه التفاوضي المتكلف والذي يفتقد للذوق ولا يمكن توقعه، بالإضافة إلى تجاهله على الطريقة الصينية للأعراف الدولية، يزعزعان العلاقات الدولية، فالمتاعب الداخلية مثل الاستقطاب السياسي والجمود التشريعي اللذين عمل ترامب بشكل نشط على تعزيزهما تضعف الموقف الأميركي دوليا.

لكن لا أحد ينكر أن مقاربة أميركا لإبراز عضلاتها "أميركا أولاً" التي تتضمن أحد أهم التعزيزات العسكرية منذ الحرب العالمية الثانية، تعكس رؤية استراتيجية تركز بشكل تام على التحقق من بقاء الولايات المتحدة الأميركية أكثر قوة مقارنة بأي خصم في المستقبل المنظور.

ربما الأهم من ذلك كله أن نهج الصفقات المتعلق بالعلاقات الدولية، الذي تعتمد عليه استراتيجية ترامب، من المرجح أن يستمر حتى بعد خروجه من الرئاسة بفترة طويلة، فالأصدقاء والأعداء على حد سواء يجب أن يعتادوا على أميركا التي تسعى إلى تحقيق مصالحها وتعمل ما بوسعها بغض النظر عن التكلفة لمنع تدهورها الحاد.

* أستاذ في الدراسات الاستراتيجية في مركز أبحاث السياسات، ومقره نيودلهي، وهو زميل في أكاديمية روبرت بوش في برلين، ومؤلف تسعة كتب بما في ذلك كتاب "الطاغوت الآسيوي" وكتاب "المياه: أرض المعركة الجديد في آسيا"، وكتاب "المياه والسلام والحرب: مواجهة أزمة المياه العالمية".

«بروجيكت سنديكيت، 2018» بالاتفاق مع «الجريدة»

إدارة ترامب حريصة على الحد من تجاوز أميركا الإمبريالي لقدراتها بما في ذلك تجنب التدخل في الحروب البعيدة

النشاطات الدبلوماسية لترامب تستهدف إحراز تقدم فيما يتعلق بالرؤية الاستراتيجية الكبرى لوقف الانحدار النسبي لأميركا
back to top