وصلتني رسالة "واتس" لصورة عن طريق كاميرا الهاتف النقال، لرسالة بخط يدي عمرها يتجاوز الأربعين عاما! أيقظت تلك الرسالة صباح ذلك اليوم، رغم أنه بدأ مسبقاً، وأزاحت فجأة ذلك الصباح الصيفي الحار والمتبل بطعم الغبار ورائحة شواء خطوات النهار، واستبدلته بصبح بنكهة الحنين، وكأنما أغلقت تلك الرسالة نافذة، وفتحت أخرى لحياة أخرى، حياة لا يغيب عنها العشب ولا خزامى الذكريات طوال فصول السنة. كان محور هذه الحياة مثلثا صغيرا أحد أطرافه مُرسل تلك الرسالة، إضافة إلى اثنين آخرين أنا أحدهما، وهو مثلث متشابك بأشكال أخرى من العلاقات الإنسانية متقاطعة بطريقة ما بأحد أطراف ذلك المثلث الصغير، والذي تشكَّل في السنة الثانوية الأولى لنا. بدأت صداقتنا خطوتها الأولى منذ يومنا الأول في تلك المدرسة الثانوية، ومن مقاعدها الدراسية، ويومها عرفت أن الاثنين الآخرين من "أهل" المنطقة التي انتقلنا إليها منذ أيام قليلة، ويسكنان ذات الحي، ما ساعد في اندماج هذا المثلث والتآلف السريع والمذهل بين أطرافه، حتى كنا لا نكاد نفارق بعضنا إلا وقت النوم. وخلال وقت قصير اتسعت تلك الشبكة، لتشمل بعضاً من أفراد أسرة كل طرف منا وبعض أصدقائنا، وعزز ذلك كثيرا في تجذر الحياة اليومية وثرائها بيننا على مدى سنوات! بعد تخرجنا في الثانوية العامة، ذهب مساعد، وهو أحد أطراف ذلك المثلث ومُرسل رسالة الواتس آنفة الذكر، لدراسة الهندسة في الولايات المتحدة، والتحقت أنا بجامعة الكويت، فيما التحق صديقنا الثالث بكلية الشرطة، بعد أن ضيَّع فصلا دراسيا كاملا في الجامعة، محاولا استساغة طعم الكتب! كان سفر مساعد للخارج للدراسة هو أول وجع فراق أشعر به في حياتي، لم أعرف قبل سفره ما الفقد، لم أكن قد فقدت أماً أو أباً، أو فارقت أخاً أو حبيباً، خلّف فراقه فراغا ووحشة ووجعا لتفاصيل حياة يومية اتضح أنها أقوى مما ظننت، وكنا نستخدم في ذلك الزمن الرسائل الورقية، فغمست ورقة بيضاء بمشاعر الفقد وأرسلتها، كانت أول رسالة أرسلها بعد شهر تقريبا من سفره، وهي التي أرسل صورتها ذلك الصباح.بقيت عالقاً فترة ليست بالطويلة في فخ الفجيعة، حيث وجدت نفسي، وبغير قصد، أملأ الفراغ الذي أحدثه مساعد في حياتي، بما فاجأتني به الحياة الجامعية من عالم مختلف تماما عن عالمي، وبدأت تتشكل من جديد بيني وبين أطراف آخرين أشكال من العلاقات والصداقات. جرَّبت بعد فراق مساعد حتى يومي هذا أشكالا عديدة من الفقد وأشكالا عديدة من الوجع، ولم أكن أعتقد لحظة كتابة تلك الرسالة أنني سأشفى من فقد مساعد إلى أن يعود، لنعيد حياة تشاركنا تفاصيلها معاً، وأظن أني ككثيرين يعتقدون في كل فقد أنهم لن يُشفوا ممن فقدوا. ها نحن؛ مساعد وأنا وصديقنا الثالث، أحياء، وعلى تواصل من حين إلى حين، ولم تغب أخبارنا عن بعض، لكننا لا نعش الحياة اليومية التي كنا نُمنِّي فقدنا بها، ولم يعد في حياة كل منا اليومية فسحة تستوعب حياة الآخر اليومية، رغم أننا مازلنا على تواصل مستمر.
جعلتني رسالة مساعد تلك أتساءل: ألا يمكن أن ينطبق ذلك على من فقدنا إلى الأبد، لو أنهم عادوا؟!
توابل - ثقافات
لو عادوا!
02-08-2018