رياح وأوتاد: هل نحتاج اليوم تقرير تقصٍّ آخر جديداً؟
تعددت الآن أنماط الفساد والسرقات والتجاوزات التي تتضاءل أمامها سرقة الناقلات، وربما يكون الاستعداد اليوم لمواجهة الاختلالات أصعب من السابق لأن مصدرها الآن هو مجلس الأمة بالإضافة إلى الحكومة التي كانت منفردة بالقرار سنة 1990.
بمناسبة ذكرى الغزو العراقي انتشرت في وسائل التواصل صفحات مهمة من تقرير لجنة تقصي الحقائق التي شكلها مجلس 1992 بعد التحرير، والتي كنت مقرراً لها، ثم رئيساً للجنة التحقيق الفرعية التي كونتها. لجنة التقصي هذه أصدرت أربعة تقارير هي التقرير المالي والسياسي والعسكري الذي يروي تفاصيل الغزو يوما بيوم وساعة بساعة، والتقرير الرابع يتناول إعادة بناء الجيش الكويتي بعد التحرير.ونشرت صحيفة "القبس" التقرير المالي الذي سُرب من اللجنة قبيل اكتماله، فعملت الحكومة بعدها بحكم علاقتها بالصحف على عدم نشر التقارير اللاحقة، رغم أنها لم تكن سرية فإن صحيفة "الطليعة" نشرت التقرير السياسي، كما نشرت بعض الصحف الأخرى مقتطفات قليلة من التقرير العسكري الذي قمت بتوزيعه بنفسي، أما تقرير إعادة بناء الجيش الكويتي، ويحتوي على الاتفاقات الأمنية مع الدول الكبرى، فقد أضفت عليه اللجنة صفة السرية، وحفظ في المجلس دون توزيع أو نشر.
أما هذه الصفحات التي تتداول في وسائل التواصل اليوم فهي جزء يسير من التقرير السياسي للجنة، وهي تتناول تقصير الحكومة في ذلك الوقت، وتخلفها عن الاستعداد للغزو، بعد أن قامت الدلائل والمؤشرات عليه، وتلقت الحكومة عنه تقارير تحذيرية من شهود عيان وجهات استخبارية ودبلوماسية كويتية وخارجية، ورغم نصائح هذه الجهات وأدلتها، وكذلك رغم طلب بعض الوزراء والمختصين المدنيين والعسكريين الاستعداد والاستعانة بقوات رمزية من إحدى الدول الصديقة، فإن الحكومة رجحت في النهاية أن صدام ليس بهذا الغباء، وأنه لن يجرؤ على الغزو الشامل، وأنه قد يكتفي باحتلال شريط حدودي وعندها تُحل المشكلة دبلوماسياً.هذا الخطأ وهو عدم الاستعداد لأسوأ الاحتمالات كلّف الكويت آلاف الشهداء ودماراً كبيراً ومليارات لإعادة الإعمار والتحرير والإعاشة، والاستعانة الدائمة بالقوات الأجنبية، وغير ذلك من الخسائر الجسيمة.والآن، وبعد مرور سنوات طويلة، هناك سؤال يُطرح بإلحاح: هل نحتاج اليوم إلى تقرير تقصي حقائق آخر جديد يتناول عدم الاستعداد أيضاً؟! ولكن علام التحذير اليوم؟ والاستعداد لمن هذه المرة؟ يؤكد أهل الاقتصاد أن التحذير اليوم ينصب على اختلال الوضع الاقتصادي، فقد حذرت جميع اللجان المشكلة والاقتصاديون المختصون منذ إنشاء لجنة إصلاح المسار الاقتصادي ومرورا بتقارير البنك الدولي وبلير وماكنزي والشال، وانتهاءً بتقرير اللجنة الاستشارية الاقتصادية من خطورة الاعتماد على مصدر وحيد للدخل، وبينت العاقبة السيئة في استمرار الحكومة بدور الموظف الوحيد لقوة العمل، ونادى المخلصون بضرورة كبح الزيادات المطردة في المصروفات، وأهمية إصلاح آلية سوق العمل والتركيبة السكانية، ولكن رغم هذه التحذيرات فإن جميع هذه الاختلالات مازالت موجودة بل ازدادت وتعمقت بعد التحرير، وبلغت مصروفات الميزانية أكثر من 21 مليار دينار بعد أن كانت في سنة 2000 لا تزيد على 4 مليارات، وأصابها العجز للسنة الثالثة على التوالي، وأصبح توظيف الشباب أكثر صعوبة، وأضحت البطالة المقنعة على عينك يا تاجر، ومازلنا نستقدم الوافدين ليقوموا بالكثير من الأعمال الضرورية والمهمة، ومشكلة البدون مازالت معلقة رغم جهود الأخ صالح الفضالة وفريقه، والمناقصات الكبرى تركزت في أيدي القلة من الفعاليات الاقتصادية، وفُقدت المنافسة التجارية، وأراضي الدولة مازالت محتكرة من قبل الحكومة، ومشكلة الإسكان ازدادت تفاقماً، أما الفساد فحدّث ولا حرج. فقبل التحرير كانت الأنظار مندهشة وغاضبة من سرقة الناقلات التي كانت مضرب الأمثال عن الفساد، أما الآن فتعددت أنماط الفساد والسرقات والتجاوزات التي تتضاءل أمامها سرقة الناقلات، كما تجري اليوم محاولات مكشوفة تلتحف بالقانون للاستيلاء على بعض أصول الدولة ومواردها.كل هذا يمارس تحت نظر وبصر الحكومة والمجلس ولا إصلاح ملموسا يتم أو ينجز إلا القليل، ولكن حتى هذا القليل تم إبعاد من قاموا به من المجلس والحكومة.وربما يكون الاستعداد اليوم لمواجهة هذه الاختلالات هذه المرة أصعب من السابق لأن مصدرها الآن هو مجلس الأمة بالإضافة إلى الحكومة التي كانت منفردة بالقرار سنة 1990. لذلك وإزاء كل هذه المشاهد والمؤشرات يحذر كل الاقتصاديون وتقاريرهم من كارثة اقتصادية ومالية قادمة إذا لم يتم الاستعداد لها بإصلاحات هيكلية وتشريعات قانونية وإجراءات احترازية، تأخذ بعين الاعتبار أسوأ الظروف مثل انخفاض سعر برميل النفط أو الازدياد الكبير في مصروفات الدولة نتيجة الزيادة الكبيرة المتوقعة في عدد الكويتيين، أو تفاقم وتعمق ظاهرة الفساد وانحراف التنمية.ويدلل المخلصون على تحذيراتهم بدول عربية وأخرى نفطية معروفة كانت غنية مزدهرة لكنها ركنت للدعة والترف، ولم تأخذ بأسباب الإصلاح، فإذا بها تعاني اليوم الفاقة والبطالة وسوء الخدمات وما نتج عنها من صراعات داخلية مختلفة.لذلك فإن الجواب هو نعم، نحن نحتاج اليوم إلى لجنة جديدة أو فريق حكومي أو نيابي مخلص أو حتى شعبي للتقصي والتحقيق والإنقاذ.