خلال السنوات العشر الأخيرة، اجتاحت واحة سيوة المصرية المعروفة في القدم بـ«مدينة شالي» أو واحة الإله آمون، موجة حداثة شوّهت ملمحها التاريخي رغم أنها تعتبر مزاراً مهماً يقصده السائحون من بقاع الأرض. بدلاً من الإطلالة القديمة للبيوت المشيدة من مادة يسميها أبناء سيوة «الكرشيف» (مزيج من الملح والطين)، بدأت الواحة تتعرف إلى الكتل الأسمنتية و«الخرسانة المسلحة». لكن زيارة قامت بها «الجريدة» إلى الواحة العتيقة أخيراً، كشفت أن أربعة من فناني سيوة بدؤوا منذ نحو عامين تجربة لاستلهام روح الماضي، وعلاج خطايا الحداثة.
تصاميم بخشب الزيتون
«منذ سنوات راودتني فكرة استغلال الخامات الطبيعية لاستعادة الوجه التراثي لسيوة، لكن لم تكن الواحة تشهد أي تنمية»، يقول الفنان التشكيلي السيوي طاهر عبد الغني لـ«الجريدة»، قبل أن يعرفنا إلى نفسه موضحاً: «امتهنت النجارة حين كان عمري 12 عاماً، إذ إن جدي وخالي يشتغلان بها، وتعلمت منهما هذه المهنة بما فيها من فنيات رفيعة، وبدأت أحضر خشب أشجار الزيتون التي تشتهر الواحة بزراعتها وأصمم أعمالاً تشكيلية».يتابع: «بعد عشر سنوات ظهر في الواحة مستثمر زارني في ورشتي، وطلب إليّ العمل معه، لأنه يؤسس قرية «صديقة للبيئة»، على أن أصمم له الديكورات الخشبية داخلها، فوافقت وأطلقت العنان لموهبتي في التصميم والابتكار، واستعادة روح التراث، واستعنت في تصاميمي بخشب شجر الزيتون وفوالق النخل، وأبدعت في تصميم الأبواب والنوافذ وطاولات المطاعم. وبمرور الوقت أصبحت لي تصاميم أخرى في أماكن مختلفة داخل الواحة وامتدت أعمالي لتشمل مركزاً ثقافياً ومركزاً لتوثيق التراث».ويعتمد طاهر على فكرة النقش على الخشب بثيمات مستوحاة من التراث السيوي، كذلك الفرعوني الموجود حتى الآن في صندوق العروس ويحمل رموزاً فرعونية ويونانية وأمازيغية.وبخلاف مشاركته في العام 2007 في نشاط جمعية «داير مايدور»، التي جابت قرى سيوة لإحياء التراث، شارك طاهر أيضاً في جمع التراث الشفهي الحكائي في الواحة، وجمع مع عدد من المتخصصين أكثر من 40 حكاية حتى الآن، تتنوع بين قصص تاريخية وأخرى للأطفال إلى جانب قصص من عالم الجن والخيال جميعها من التراث السيوي المتوارث عبر الأجيال. ويقول في هذا السياق: «بعد أن جمعناها كتبناها بلغة القرية (الأمازيغية) ولكن بحروف عربية، كي لا تندثر الأمازيغية بمرور الزمن»، مؤكداً أن ثمة مساعي يقومون بها لإطلاق قاموس أمازيغي مكتوب اللغة العربية».«إيجودار»
على الدرب ذاته سار الفنان السيوي يوسف إبراهيم، هو صاحب تجربة أخرى في سبيل إعادة الوجه التراثي للواحة العتيقة، فهو فنان تشكيلي له بصمة فريدة، وحصد جائزة من مهرجان التمور في دورته الثانية عام 2016 الذي تنظمه سنوياً وزارة الصناعة المصرية بالتعاون مع دولة الإمارات العربية المتحدة، وذلك عن مشروعه «الواجهات» أو «إيجودار» باللغة الأمازيغية، ويستهدف إعادة واجهات المباني إلى الشكل التراثي القديم الخاص بواحة سيوة تاريخياً.يوسف قال لـ«الجريدة»: «لواحتنا طابع خاص في العمارة، إذ يعتمد البناء فيها على طين الطَفل وأحجار الكرشيف، والمشكلة التي ظهرت منذ سنوات هي غزو الطوب الأبيض والأحمر للواحة، ما أثَّر سلباً في العمارة البيئية التي تتميز بها سيوة، ومن هنا فكرنا في حل وسط وهو دهان واجهات البيوت بالطريقة القديمة، من خلال تغطيتها بطبقة من مادة الكرشيف، مع تزيينها بنقوش تحمل موتيفات مستوحاة من تلك الموجودة في الزخارف الفضية والتطريز السيوي القديم».ويوضح: «يلجأ سكان الواحة في السنوات الأخيرة إلى البناء بالخامات الحديثة كون ذلك يستغرق وقتاً أقل، إلى جانب قلة خامات الكرشيف والنخيل المستخدمة في بناء الأعمدة، ما دفع الناس إلى اللجوء إلى البناء بالمواد الخرسانية، بينما الخامات القديمة أفضل للبيئة»يتابع: واختفاء الطابع القديم من شأنه أن يُفقد المكان خصوصيته»، موضحاً أن مشروعه الذي نفذه في حارة تُسمى «تابة المدرسة» تحوَّل إلى نموذج لاستعادة روح التراث، آملاً تعميم التجربة على مستوى الواحة كلها.وعلى خطى صديقه مضى في الطريق ذاته معرف أحمد معرف، الذي شارك مع مجموعة من سكان القرية في تطوير حارة «تابة الكبير. يؤكد لـ«الجريدة» في هذا الشأن: «أتمنى أن يحذو حذونا كل أبناء الواحة التي تعد مزاراً سياحياً لا مثيل له في العالم، وبما يستلزم الحفاظ على الإطلالة الفريدة لها بروحها التراثية القديمة».الطين الرمادي
نجح أحمد بالي في تطوير حارة «أبو بكر الصديق». يقول لـ«الجريدة»: «اشتغلنا في تطوير الحي على المستوى البيئي، من خلال توحيد لون المباني بالطين السيوي، إذ يضمّ الحي نحو 400 بيت، ووجدنا استجابة كبيرة من السكان، للحفاظ على اللون الرمادي وهو اللون التراثي للأبنية في سيوة، وفي النهاية تبدو المباني وكأنها مشيدة بمادة الكرشيف القديمة رغم أنها في الحقيقة مشيدة بالطوب الأبيض».