آلام المدن وآهاتها
في عام ١٩٨٧ كنت مشاركا والمرحوم الأستاذ راشد بورسلي بمؤتمر اليونيسكو في باريس، وجاء في المقعد المجاور لي ممثل جمهورية أفغانستان حينها. قال لي في فترة الاستراحة: "أنت من الكويت؟"، قلت "نعم". قال: "أنتم تدعمون المجاهدين الأفغان ضد حكومتنا، وتدفعون لهم الأموال والرجال أيضا" ولم أرد. كان ذلك صحيحا، وكنا ندفع بكل قوتنا لنصرة المجاهدين الأفغان. كان الوضع العام أيامها تحت سطوة الإعلام الديني، وكانت الصحف والمنابر وجمعيات النفع العام واتحاد وجمعيات الجامعة تدعو إلى نصرة المجاهدين في وجه الحكومة الشيوعية، بقيادة د. نجيب الله. قلت له: "نعم، هذا صحيح، لكني شخصيا لا أنتمي لهؤلاء". أخرج الرجل من حقيبته كتابا مصوَّرا، وبدأ يُطلعني على الحياة العامة في كابول. كان هناك عدد من المدارس الحديثة للأولاد والبنات وجامعات وكليات وعدد من المساجد الجميلة، وحياة مدنية هادئة ووادعة وصور لشعب أنيق وجميل. ثم ختم حديثه قائلا: حين تنتصر ثورة المجاهدين بسبب دعمكم لها سترى مدينة أخرى، لكن تذكّر هذه الصور.الذي ينظر لحياة مدينة كابول قبل انتصار المجاهدين وبعده سيرى الفرق بين الحياة الثقافية والاجتماعية. التطور الطبيعي للمدن هو مزيد من الانفتاح والعلم والعمران والحياة الاجتماعية والاهتمام بالقانون والعدالة والمساواة بين الجنسين، لكن ما يحدث للمدن التي تقع تحت السلطات التي ترتدي لباس الدين هو عكس ذلك تماما.
وذلك يحدث في العراق أيضا. لم يكن نظام صدام حسين سوى أحد أبشع الأنظمة الشمولية، والذي لا يرى سوى السيف في وجه كل من يعارض السيد الرئيس أو ينوي معارضته. تلك حقيقة لا ينكرها أي مواطن عراقي، لكن الذي يتردد الآن هو دعوات لعودة هذا النظام، أو تمني أيامه القاسية حين رأى الشعب تدهور الأوضاع المعيشية والخدماتية ونهب البلاد وثرواتها، بعد أن تولت الأمر سلطة تدعي أيضا أنها سلطة دينية، وإن كانت ترتدي عمامة هذه المرة. سلطة سرقت مقدَّرات الشعب وثرواته، وجعلت أغنى بلد عربي أكثرها فقرا. فبعد أكثر من خمسة عشر عاما، وبدلا من أن تتطور المدن تردَّت أوضاعها وعضَّ الجوع والفقر أهلها، وانتشر أطفالها يبحثون عن رزقهم في مزابلها. أيضا مرة أخرى حين يقارن الناس بين أمسهم القاسي وحاضرهم المُر يختارون الأمس، ويتمنون الديكتاتور الذي يضمن خبزهم اليومي على الديني الذي يسرقه.هذه الأمة التي يكتم أنفاسها المتسلط بلباسه العسكري، ويسرقها الديمقراطي بعمامته البيضاء والسوداء، الأمة التي تترنح بين البزة العسكرية والبذلة المدنية، ويخدعها القفطان والعمامة بألوانها، هذه الأمة لم تعد تدرك من أين تأتيها الضربة، وليس لها إلا أن تبقى ثائرة أبدا، ليس لها إلا أن تشهر سيفها في وجه من أضاع حقها في الحياة الكريمة كبقية الأمم. هذه الأمة التي تطالبها السلطة الدينية بأن تصمت، وتحرم عليها الثورة في وجه الجور والظلم، ويهددها واعظ السلطان بغضب الله عليها إذا طالبت بحقوقها عليها فقط أن تحكّم عقلها وتستفتي ضميرها لتعرف طريقها للمستقبل. لم تعد صور معظم عواصمنا الإسلامية اليوم هي صورها في الماضي، ويبدو أن عواصم كثيرة في المستقبل سترى صورها في الماضي، وتتحسَّر على ما آلت إليه أوضاعها.