سوسيولوجيا الليبرالية العربية
![د. محمد بن عصّام السبيعي](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1527781193350968600/1527781229000/1280x960.jpg)
ولو تعمق المرء قليلا ليتلمس جذور تبني هذا الموقف الليبرالي أو ذاك، المغالي في استعداء الإسلام والرافض لموروث حي منذ أكثر من أربعة عشر قرن، لوجد أن ليبراليي جزيرة العرب على صنفين، دون أن يكون بالمناسبة بين الصنفين أي علاقة تاريخية أو حتى قبول آني متبادل، بل أشبه بالعصبية المؤقتة في خوض حرب دعائية.الصنف الأول يبدو لي أنه قد كان في يوما ما ضحية طوعية لتوجهات متطرفة للإسلام، وهي توجهات طالما وسمت كل بضائع الفكر، يسارية كانت أو يمينية، فبانجراف هؤلاء نحو خطاب ديني متطرف، وبقضائهم حقبة من أعمارهم، تطول أو تقصر في معسكر الإسلام الأصولي، لعلهم قد اقترفوا موبقات، أو قد سرقت سنوات أعمارهم في عبث أيديولوجي، بل لعلهم قد تعرضوا لمهانة لم توضع في الحسبان. ولذلك تجد هؤلاء يجاهرون بخصام لدود تجاه الموروث، أمر يثير الغرابة ويصعب فهمه حتى حيال مبررات يمكن للمرء أن يستلها من كنانة الليبرالية أو الفكر الغربي، أما ما يثير السخرية فهو أن يعاود هؤلاء الوقوف أمام مجتمع الجزيرة متخذين دور الواعظ والمعلم والنذير من غواية الفكر المتطرف. ألا يعلم هؤلاء أن ما شد أسماعهم وأعجبهم من أفكار التطرف والغلو قد خبرته ألوف مؤلفة من مواطنيهم، وأن مناهج تعليم يصفونها اليوم ببذور الإرهاب قد قرأها آخرون ببصيرة أخرى، وأن دور العبادة ذاتها التي ينعتونها اليوم بمراكز لتعبئة الإرهابيين قد غشيها من سواهم ممن لا عدّ له، ومنهم الأمي الذي لا يحسن قراءة ولا كتابة، ولكن دون أن يحرك فيهم ساكنا، إن بدافع الفطرة وأنه لا يصح إلا الصحيح أو أن ليس لمثل تلك الأفكار أي موضع في السياق التاريخ الحالي. ألا يجدر حقا بهؤلاء عوضا عن ذلك، أن يتبوءوا مقاعد التلاميذ في مدرسة الحياة ليفقهوا أخيرا مبادئ الفطرة البشرية في تمحيص الغث من السمين.الصنف الآخر يتمثل بأجيال نالت تعليمها منذ نعومة الأظفار في المدارس ومعاهد التعليم الأجنبية، لاسيما الغربية منها، ويتحدر هؤلاء في أغلبهم من أوساط يسكنها شغف بالمظهر الأجنبي واستهلاك بضاعته، ذلك إما لبسطة في الرزق تمكنها من تجشم تكاليف مثل هذا النوع من التعليم باهظ الثمن، أو لأنها تظن فحسب أنها بذلك تحسن صنعا. وهي بهذا البذل الغالي تؤكد كذلك فارقها الطبقي وتباعد الفجوة إلى ما يليها من طبقات، على أن التكلفة المجتمعية لمثل هذا باهظة جدا أيضا، فالشوط الذي يقطعه التلميذ حتى بلوغه الرشد في تلقي قيم ولغة ليست من ثقافة محيطه، وبالنظر كذلك إلى طبيعة مشارب زملاء المدرسة وأطقم التدريس التي يغلب عليها صراحة الطابق الغريب، إن لم يوص بذلك، كل ذلك يخلق بعد سنوات حاجزا من العزلة يصعب تجاوزه تجاه سواد المجتمع. حاجز يبدأ بضعف في إجادة اللغة المحلية في سبيل لغة أجنبية، ضعف يهبط بصاحبه إلى مستوى متدن من التفاعل مع المجتمع وفهم معانيه، كما ينهض ذلك الحاجز على أسس من إلمام شحيح بتاريخ وموروث هذه الأمة، ولجوء إلى قيم غريبة أكثر منه إلى إيمان بها، ومع أنه يصعب هنا أن نقيم علاقة خصام أو انتقام، كما للصنف السابق، بين انخراط في مدارس أجنبية، من ناحية، والموروث من ناحية أخرى، وذلك نتيجة قطيعة طويلة الأمد، إلا أن الملاحظ هو عدم اكتراث هؤلاء أو ربما نفورهم المبدئي من الموروث. وعليه تجد موقف هؤلاء حين تفرز المواقف أكثر ميلا إلى ما هو غير تقليدي وأبعد عما هو موروث، وبما أن البضاعة الفكرية الرائجة اليوم هي الليبرالية فهم ليبراليون، وآية ذلك أنه قلما تجد من هؤلاء من يمثل اتجاها محافظا، هذا رغم أن العالم الغربي وتنظيماته الليبرالية تغص بالمحافظين، أليس كذلك؟!