وصف الروائي والشاعر ابراهيم نصر الله شعوره بالسعادة عند لقائه الجمهور الباريسي، وقراء روايته فقال: «هذا اللقاء بمنزلة الجائزة بالنسبة إليّ، وينطبق ذلك على دعوتي من مؤسسة كبيرة وعريقة مثل معهد العالم العربي، واحتفائها بي، فضلاً عن حضور النقاد الرائعين الذين أكنّ لهم احتراماً كبيراً لمستواهم وما يقدموه للثقافة العربية من نقد عميق، فضلاً عن لقائي القراء الذين يناقشونني في أعمالي بدقة وحميمية... ذلك كله يمثِّل جائزة حقيقية لي. ولا أقول ذلك مجازاً».

وزيارات نصرالله إلى باريس، كما قال، قليلة ومتباعدة، فقد كانت آخر زيارة له منذ ثماني سنوات، وشارك حينها في أسبوع الأدب الفلسطيني، وأشار إلى أن الأمسية أيضاً أقيمت في معهد العالم العربي، مؤكداً أنها كانت جميلة: «لن أنساها أبداً»، ذكر وأضاف: «كنت زرت باريس قبل هذه الزيارة في عام 1993، وكان لقائي الأول مع اذاعة «مونت كارلو الدولية»، وأحتفظ بذكرى جميلة عنه».

Ad

جمال

تطرّق نصر الله في حديثه إلى ترجمة روايات له إلى لغات عدة وغياب الترجمة الفرنسية، مشيراً إلى أنه يطرح هذا السؤال على نفسه: «لماذا، وماذا حصل؟». وأوضح: «بالإنكليزية لديّ ستة كتب، واثنان قيد التحضير، «حرب الكلب الثانية» و«أرواح كليمنجارو»، فضلاً عن مجموعة شعرية، أي ما مجموعه تسعة كتب. أما الإيطالية، فألاحظ نمواً كبيراً في الترجمة إلى هذه اللغة، بالإضافة إلى ترجمة أربعة كتب إلى الهولندية، وبالإسبانية».

وأكّد نصرالله أن الأدب هو جمال الأمم، ونحن لم نتنازل كعرب في ترجمتنا للآداب الأميركية، والهندية، واليابانية، وأميركا اللاتينية، والفرنسية وعلق: «نشعر بأن الأدب الفرنسي والإيطالي جزء يومي من حياتنا الثقافية، ونعتبر كثيراً من الكتَّاب في هذا المجال كتاباً محليين لفرض حضروهم. وأعتقد أننا لا نستطيع في هذا الزمن أن نطل على أرواح بعضنا البعض إلا إذا تأملنا ذلك الجمال الحقيقي فينا بعيداً عن الصورة السائدة. لا أستطيع أن أختصر فرنسا بتاريخ استعماري مثلاً، ولا على فرنسا أو أية دولة أخرى، إيطاليا أو إسبانيا، أن تختصر العالم العربي في أي «كليشيه» حاضر. ثمة جمال كلما انفتحنا عليه، سنصبح أولاً أجمل، ويصبح عالمنا أجمل بالتأكيد».

أما بالنسبة إلى الماضي والنسيان فقال نصر الله: «افتتحت روايتي «مجرد 2 فقط» بعبارة «نحن ننسى لنعيش لكننا لا ننسى تماماً كي نموت»، وأنا أعتبرها أساسية وترد في رواية «أعراس آمنة» التي صدرت منذ أيام بالإنكليزية بعنوان «أعراس غزة»، تتحدث فيها البطلة مع غسان كنفاني وتقول له: «أتدري ما مصير الحكايات التي لا نكتبها، إنها تصبح ملكاً لأعدائنا». في اعتقادي أن عظمة الشعب الفلسطيني، أنه وبعد 70 سنة، يتذكر فلسطين أكثر مما كان يتذكرها بعد النكبة بشهر أو شهرين. هذه الذكرى القوية التي تعيش الآن في أطفالنا، وفي كبار السن، هي في اعتقادي أمر نادر ومهم، وأدى الأدب دوراً أساسياً في ترسيخها، وفي تشكيل الهوية الفلسطينية».

الملهاة الفلسطينية

تابع نصرالله: «صنع لنا الأدب ذاكرة استثنائية، وأنا اعتزّ بأنني أسهمت كفرد في أن أكتب مشروع «الملهاة الفلسطينية»، وعمره الآن 33 سنة، وأشعر بالاعتزاز حينما ألمس ذلك التأثير الهائل في الشباب بشكل أساسي، وأتأثر عندما يعبرون عن هذه الروايات كأنها أشبه بآلة الزمن التي تنقلهم إلى زمن أجدادهم وآبائهم، ومن خلالها عرفت أيضاً كيف كان يعيش أبي، وأمي، وجدي، ورأيتهم أطفالاً، كذلك منحتني أكثر من عمر. الملهاة الفلسطينية تغطي الآن 250 سنة، وقد عشت 250 سنة فعلاً، إضافة إلى عمري الذي كنت أعيشه، وربما هذه جماليات الرواية، وهذا هو تاريخ الماضي. لكن ما دمنا وصلنا إلى «حرب الكلب الثانية» فهي تاريخ المستقبل أو هي محاولة لتأمل تاريخ المستقبل».

وعن روايته «حرب الكلب الثانية» قال نصر الله: «هي رواية تحذير من المستقبل، ومحاولة لتأريخه. ولا أعتقد أنها منفصلة عن مشروع الملهاة الفلسطينية والتاريخ للماضي، ولأنني بت أتساءل أيضاً عن كل تاريخ كتب بالماضي، ضمن أهواء المؤرخين، ومحبة هذا المؤرخ أو انتماء ذاك، أو انحيازه إلى سلطة ما أو قوة ما. فكل تاريخ كُتب ضمن رؤية ميالة إلى طرف ما، ولذلك لا أعتقد أن أي تاريخ يُعتبر نزيهاً تماماً. حينما نكتب عن المستقبل، على الأقل لا نقول إن هذا تاريخ. من ثم، قد نكون بعدم اعتمادنا على مصادر تاريخية أكثر صدقاً في تقديم رؤية ربما تكون صحيحة، أو غير صحيحة، من ثم المستقبل سيحكم عليها ضمن وقائعه. هذه الرواية انطلقت من الحاضر، من الوحشية التي عشناها في السنوات الأخيرة في عالمنا العربي وعاشها العالم».

أشياء قاسية

واستكمل نصر الله حديثه قائلاً: «ليس العالم العربي وحده يعاني في أجزاء منه هذا التوحش الكبير حتى لم نعد نعرف إن كان جارنا في اليوم التالي سيكون قاتلنا، بل إن التوحش الكوني يجتاح شعوباً بأكملها ويبيد مناطق ومدناً. سلطة القوة الطليقة التي تقتل عن بعد آلاف الكيلومترات وهي تستمتع بمشروب ما مثلاً، إنه أمر مرعب، ولن ينجو أحد حينما يتحقق نصر ظالم لأن الأخير لا يمكن أن يستمر، بمعنى أن من انتصر بظلم سيدفع ثمناً كبيراً، ولدينا أكبر مثل الصهيونية، والدولة التي أقيمت على أرض فلسطين، فمنذ 70 عاماً يُفترض أنها حسمت المعركة واحتلت فلسطين، ولكنها لم تستطع أن تضع نقطة في آخر السطر، وتقول: ها قد استرحنا أخيراً، وبدأنا ننعم بما سرقناه... هذه المسائل كلها تدعونا إلى تأمل ما نحن مقبلون عليه، والرواية كانت محاولتي لتأمل ذلك المستقبل، وفي الذهاب إليه، وهي محاولة بالنسبة إلي بقدر ما كانت قاسية، وأتمنى ألا تعاد، فإنها فتحت مناطق جديدة في عقلي لم أستخدمها سابقاً، جعلتني أخترع أموراً كثيرة ربما تُخترع مستقبلاً، وأتمنى أن يتحقق شيء منها، وأحسست في أن بعضها يشكل خطرا».

وأوضح نصر الله: «هذه أول رواية أكتبها شخصياتها كلها سلبية، فيما الاختراعات مثّلت فترات الراحة، أما بقية الأمور فكانت صعبة جداً، كتلك العفونة التي تنتشر هنا وهناك. حينما كنت أكتب تلك المشاهد، كنت أشعر بأن صدري صار خالياً من أية قبضة هواء، فأركض وأفتح النافذة رغم شدة البرد، وأضع رأسي خارجاً وأتنفس وأستريح، ثم أعود وأكتب».

ونصر الله يحبُ الأثر التي تركته الرواية لديه، كما قال، لأنه كان يريد أن يصدم قارئه على مستويات عدة. تابع: «هذه الرواية مختلفة تماماً عن غيرها، إذ ذهبت إلى المستقبل، ومقلقة للقارئ ولا تريحه حتى لحظة»، لافتاً إلى أن الكتابة ليست حبة مهدئ، سواء له ككاتب أو للقارئ، فالترفيه نجده في أي مكان آخر: «ولكن حينما تكتب عليك أن تقول خوفك، وفرحك من الداخل، ويتوجب أن تقدم مشروعك الفني وأن تجتهد في أن يكون جديداً».

من ناحية أخرى، تحدث نصر الله عن رأيه في القرّاء: «تطوَّر القراء في العالم كله، ومن حقّ القارئ أن نقدم له كل جميل ليستمتع به». أما عن جديده فأشار إلى أنه يشتغل على عمل منذ عام 1990، موضحاً أن رواية «زمن الخيول البيضاء» صدرت بعد 22 سنة من بدء العمل بها».

وكشف أن في الرواية الجديدة مدينة بيت ساحور هي الخيط الأساسي، والعصيان المدني العظيم الذي قامت به في الانتفاضة الأولى، فقد كان نموذجاً هائلاً في النضال الفلسطيني. واتسعت الفكرة لتشمل بداية القرن حتى عام الانتفاضة الأولى. وأضاف بأن ثمة رواية ثلاثية بعنوان «نور العين»، عن أول مصورة فوتوغرافية فلسطينية، كانت تقود سيارتها وتتنقّل بين المدن.

ونصر الله، كما أعلن، يحب الدور الذي تؤديه المرأة في رواياته، ويعتزّ به. وأضاف: «هذه الرواية مكرسة للتصوير، وتتحدث عن كيفية احتلال الصهيانة فلسطين خطوة بخطوة».