شهد القرن العشرون حربين عالميتين لا مثيل لهما في مستوى التدمير والقتل والإجرام، حيث قُتل في الحرب العالمية الأولى نحو تسعة ملايين إنسان، في حين قُتل في الحرب العالمية الثانية واحد وستون مليون إنسان أو ما كان يعادل 2.5% من مجمل البشر في ذلك الحين، إضافة إلى عشرات ملايين الجرحى والمفقودين، وتدمير عشرات آلاف المدن والقرى والبلدات.كما شهد العالم خلال القرن نفسه ثورات شعبية بطولية ضد الاستعمار أدت إلى تحرر عدد كبير من الدول واستقلالها، وثورة الحقوق المدنية ضد التمييز العنصري ومن أجل حقوق المرأة، وكان آخر انتصارات القرن الماضي إسقاط نظام الأبارتهايد العنصري في جنوب إفريقيا، وفي خضم ذلك النضال دفعت الشعوب حياة الملايين من أبنائها وبناتها كي تتخلص من قيود الاستعمار والاضطهاد.
إحدى نتائج مجازر الحروب الاستعمارية الجنونية، كان نهوض لجان السلام ضد الحروب، وحركات مساندة النضال ضد الاستعمار والتمييز العنصري، والحركات المطالبة بإقرار مواثيق حقوق الإنسان، مما أدى إلى إقرار المواثيق والقوانين الإنسانية التي تدين وتقاوم العنصرية، واضطهاد البشر، وخرق حقوق الإنسان الأساسية، وجوهرها الإقرار بأن البشر متساوون في الحقوق بغض النظر عن الجنس، أو العرق، أو الدين، أو الانتماء. الثمن الذي دفعته البشرية والشعوب كي تصل إلى هذه الحقوق والقوانين كان باهظاً، ولكنه أدى إلى ترسيخ مبادئ وقواعد في العلاقات الدولية تقيد صراع المصالح الذي يحكم هذه العلاقات، فلم يعد التمييز العنصري مبررا، وصار الاستعمار مستهجنا، واعتمدت دول عديدة كالدول الإسكندنافية قوانين قاطعة في احترام حقوق الإنسان، وحاولت كثير من الدول الكبرى خلال فترة الحرب الباردة، أن تغطي ولو شكليا سياساتها بادعاء تمسكها بقيم الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، حتى انتهت الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفياتي، ونشوء نظام القطب الواحد، الذي ينازع اليوم في مواجهة بزوغ عصر تعدد الأقطاب. المعضلة التي تواجه البشرية اليوم هي الانهيار المريع للقيم والمبادئ الإنسانية في السياسة الدولية، وتوقف دول كبيرة وصغيرة عديدة عن احترام، بل عن الاعتراف بحقوق الإنسان ومواثيقها وقوانينها، وعودة نظام السيطرة الاستعماري بالقواعد العسكرية، والنفوذ السياسي، والهيمنة الاقتصادية، حتى صار ابتزاز الضعفاء من قبل الأقوياء منهجا، وغدت المصالح العارية الباردة هي المتحكم الوحيد في علاقات الدول، دون تقيد بأي مبادئ حتى لو كانت زائفة. وذلك هو التفسير للوقاحة الفجة في التعامل مع قضايا المهاجرين واللاجئين، وفي نهوض العنصرية المتطرفة، وحتى النازية والفاشية في الولايات المتحدة، وعدد كبير من الدول الأوروبية، وفي عودة أنماط التعصب والتكبر القومي، وفي نشوء أخطر نظام أبارتهايد عنصري في تاريخ البشرية على يد إسرائيل التي تكرس التمييز العنصري على أساس الديانة اليهودية، وكأن التعصب اليهودي الذي أقره الكنيست الإسرائيلي غدا الوجه الآخر لأسوأ مفرزات التعصب الشوفيني، وهي اللاسامية. وعندما تتفاخر بعض الحكومات بقمعها للحريات وتنكرها لحقوق شعوبها، وبممارستها للدكتاتورية، فإن ذلك يعكس انحدارا عميقا في القيم، ومؤشرا خطيرا للانفجارات التي ستشهدها بلدان هذه الحكومات، عاجلا أو آجلا. وعندما تقر سبع عشرة ولاية أميركية قوانين تجبر المدرسين في الجامعات والكليات، والباحثين، وحتى المحاضرين الخارجيين، على توقيع إقرار بمعارضتهم لحركة مقاطعة العنصرية الإسرائيلية وتعهدهم بعدم الانضمام لها، فإن ذلك يذكرنا بقوانين المكارثية البائسة التي حطمت حياة ملايين الأميركيين، ومنهم كبار المبدعين في ميادين الثقافة، والإعلام، والفن. وعندما يقدم الكونغرس الأميركي، بناءً على طلب وضغط الحركة الصهيونية واللوبي المناصر لها، على مناقشة قانون يحدد عدد اللاجئين الفلسطينيين الستة ملايين بأربعين ألفا فقط، فإن ذلك يذكرنا بما تعرض له جاليليو في القرن السادس عشر من اضطهاد، لإجباره على التراجع عن اكتشافه العلمي القاطع بأن الأرض تدور حول الشمس لا العكس. وباستطاعة الكونغرس، بالطبع، أن يقرر أن الشمس تشرق من الغرب، ولكن ذلك لن يجعلها تفعل ذلك، ولن يلغي أي قانون صفة اللجوء عن اللاجئين الفلسطينيين الذين مورس ضدهم التطهير العرقي عام 1948 بإقرار بعض كبار الباحثين والمؤرخين الإسرائيليين.غير أن أكبر خطايا عصرنا اليوم تكمن أولا في معاملة الدول الصناعية الكبرى للمهاجرين، بهدف تكريس منظومة الرأسمالية المعولمة القائمة على حرية تنقل الاستثمار، والبضائع، ورأس المال، مع تقييد حرية حركة العمال، بهدف استغلال عمالتهم الرخيصة في بلدانهم، وثانيا في تقبل عنصرية إسرائيل اليهودية، والتعامل معها، والصمت على جرائمها ضد الشعب الفلسطيني، بما في ذلك اتهام الشعب الفلسطيني المضطَهد بالإرهاب، والتغطية على إرهاب الدولة الذي يمارسه الاحتلال، ونظام الأبارتهايد الذي أنشأه. هناك أزمة عالمية مضمونها الانحدار نحو قيم القرن التاسع عشر وما قبله، حيث تسود العلاقات الدولية لغة المصالح الباردة فقط، ومنطق القوة والغطرسة، وهيمنة جبروت المال والجيوش، بوقاحة عديمة الخجل. لكن ذلك كله كان قائما من قبل، وزال، لأنه يتعارض مع مصالح آلاف الملايين من البشر، وتطلعاتهم، وآمالهم، وأحلام الذين لا يمكن أن يسكتوا على هذا الانحدار المريع.* الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية
مقالات
الانحدار نحو قيم القرن التاسع عشر
12-08-2018