عندما نكبر (2)
![فوزية شويش السالم](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1555928838345230500/1555928850000/1280x960.jpg)
ساعتها، أي وقتذاك، ستشعر بفرحة طفل يكتشف حلاوة عالم يضج ببهجة نبض الحياة، وأنه لا شيء من محاذير المخاوف له أي وجود من حوله؛ الناس يمضون في نشاطهم، والشمس تدفئ المشاعر، والهواء معبأ بأريج الصيف المتفتح، وأن كل شيء على ما يرام، وأنك سافرت أميالا، وعبرت بلدانا متعددة، ونزلت في مطارات مختلفة، حتى وصلت إلى هدفك بعد سفر طويل قطعته لوحدك دون رفقة أحد إلا صحبتك لذاتك، وأنك تخلصت من هواجسك ومحبطات كل مَن حولك. الحياة تستحق المغامرة للوصول إلى جائزتها، لأنه لا خيار أمامك إلا أن تجازف وتغامر، متخطيا كل الأوهام المحبطة لك، وسيقول بعضهم هذه مغامرة ومقامرة، أجل حتى المقامرة لها منافعها التي تحفز وتلهب الدوافع للوصول إلى شغف جائزة نيل شرف الحياة.رأيت هذا الواقع مع كثير من الأهل والأصدقاء والأقارب قتلهم وعوَّق حياتهم خوفهم وخوف مَن حولهم عليهم عندما كبروا، وباتوا أسرى للرهاب والمخاوف والقلق من عدم استطاعتهم اجتياز عتبة الحياة وحدهم دون طلب المساعدة من أحد، وأحيانا حتى تجاوز عتبة البيت بات يعني لهم مغامرة لا تستحق الاجتياز، وأن الأمان كله يكمن داخل جدران تحوطهم وتحميهم، حتى ارتخت العضلات وضعفت إرادة القفز خارج قفص المخاوف، وباتت عبئا لا يعرفون كيفية التعامل معه، وخاصة عندما ينشغل الأبناء بأعباء العمل والبيت وأولادهم، حينها مَن يستطيع حمل وحدتهم وتحملها ومشاركتها معهم؟علينا تعلم كيفية مصاحبة الوحدة بمحبة واطمئنان، والنظر إليها كرفيقة درب حبوبة، واعتبارها مصفاة ومنخلا لكل ما مضى من تجارب عمرنا، وما عشناه من أفراح وآلام اجتزناها وخبرنا حلوها ومُرها، أحزانها وسعادتها، وما هي إلا اختبارات عبرناها بنجاح، دليله أنه ما زلنا نعيشها ونتذكرها بحنان حتى الآن.حينما نتعلم مصاحبة الوحدة ندرك أنها ليست سيئة إلى هذا الحد، بل إنها نتيجة قيمة رفاهية عزلتنا، وما تمنحنا إياه من صفاء في الرؤية، وشفافية رائعة حنونة، حتى إن تغلفت بالشجن، وتبللت أحيانا بالدموع والحنين للمفقود من ذكرياتنا، لكنها تجعلنا ننظر إلى كل ما حولنا بمحبة وعطف ورأفة ورضا، وهذه أكبر جائزة يمنحها العمر لنا عندما نكبر وندرك فضيلة التسامح.الشاعر مبدع الصورة الشعرية جمال القصاص له قصائد كثيرة تصوِّر الوحدة والعزلة الشفافة الصافية التي وحدها تهب للشعر وقوده "كل يوم تقل قدرتي على تحمُّل نفسي/ أخشى ألا أتذكر أنني كنت هنا / مشيت في هذه الطرق / قابلت هؤلاء البشر / رسمت هذه الصور / انتسبت لشيء ما / حين تكون وحيدا / لا شيء سوى ظلك / بالكاد يعبر بك الشارع / ربما تحس أنك متواجد في المكان / أن الهاوية طفلة / تدرِّب نفسها / على السقوط بمحبة / تحت قدميك".وهذا مقتطف آخر من ديوانه (جدار أزرق): "هذا مأزق النعمة / معنى أن تعبر النهر وحدك / أن تقيسه بمساحة المطر/ بجرس لا يعرف كم نجمة صالحة للغرق./ ليس لدي وقت هنا / لا أشتهي رفوفا أخرى تزاحمني فراغي / عزلتي في داخلي / دائما لا أنسى أنني راحل / أنني أديت مهمتي بسلام / تألمت لمساحات الخراب في الوجوه / نخلتها في خطوتي الصغيرة / كي أذهب أبعد من ظلي / كي أصون هبائي".