الشاعر والغزلان!
"والشعراء يتبعهم الغاوون"، إلا أن الشعراء في الوقت ذاته غاوون يتبعون الشعر، فذنب غوايتهم مركَّب وأكثر تعقيداً!إن الشاعر مسكين، مغرر به، يسقيه الوهم كأسا، فيرتوي من الظمأ ليطلب المزيد، يهيم عابراً عمره ينتقي حبات رمل من الأرض، ويضعها في راحة يده المفتوحة للسماء، ويقرأ بعض تعاويذ عليها، ويقسم بأنه ذات يوم أصبحت حبات الرمل تلك أعشابا وسنابل! وقبل أن يصدقوا بآياته، أو يسخروا من حكاياته، يغلق عينيه، ليغفو في غابة كثيفة وشاسعة يطارد غزلان كلمات مذهبة خلف أشجار من المفردات وظلالها، لا تتراءى له تلك الغزلان واضحة جلية أحيانا، لكنه يلمح وميضها خلف تشابك أغصان الأشجار وتصافح جذوعها، فيخاتلها حتى يقترب منها، ويرمي لها قطعاً من رغيف الفضاء الأبيض، فتدنو منه رويدا رويدا، حتى تقع في محبرته. غالبا ما تكون الغزلان الظاهرة على أطراف الغابة طُعما للشاعر، لجره إلى الغابة أكثر، والتوغل أكثر في عالمها السحري والمدهش، غزالة تقوده إلى أخرى تأخذه لعالم آخر من تلك الغابة، أكثر سحرا ودهشة، فلا تعود تلك الغزلان المذهبة طريدة، ولا يعود هو صيادا لها، تستأنسه ويأنسها، فتصبح دليله في هذه الغابة، ومرشده إلى أبوابها السرية، إلى أن يقع الشاعر أسير دهشته، مأخوذا بمغارات السحر التي ترشده إليها دليلاته وما تخبئه من كنوز، فإذا ما بلغ ذروة انبهاره في عجائب ما يرى بمصاحبة الغزلان المذهبة قادته إحداها إلى غزالة أخرى بلون الماء، فتأخذه هذه إلى جبل شاهق تغطيه الأشجار الغناء، وتُدخله خلف مسقط أحد الشلالات من باب يبدو وكأنه جزء من ملامح الجبل بصخوره الصماء كبيرة الحجم، وحال ولوجه هذا الباب يلقّنه الشعر بعض كلمات مقابل امتلاك روحه إلى الأبد. وهنا مربط جنة الشاعر وناره الخالدة التي تدمن لهبها أصابعه، ويستوطن وهجها قلبه، يقع الشاعر في مصيدة الشعر، ويصبح رهينا له مسلوب الإرادة، مقيدا بأمره، يسير في ركب قافلته المصنوعة من الريح والمطر، يصبح مهووسا به مؤمنا بجنونه قبل عقله، يستلذ وجعه قبل دوائه، ووهمه قبل حقيقته، يرافق طيشه ونزواته، لا يملك سوى أن يردد بصوت جهوري: آمين، لكل قول مُنزل من وحي الشعر. يتلبّس الشعر الشاعر، حتى يأخذ من صفاته الكثير، ويتحرر من كثير من المعايير الأخلاقية الوضعية، ويتبنى المعايير التي صاغها الشعر، يصبح الشعر حينها بالنسبة للشاعر ليس ممارسة هواية اقتناص غزلان الكلمات المذهّبة، بل نمط حياة يسير عكس التيار تابعا للشعر معتنقاً هواه، خاضعا لمشيئة غوايته، وهذه إشكالية الشاعر الكبرى، فالشعر أكثر ما ينطبق عليه؛ تعريفا ووصفا، عبارة جلال الدين الرومي: "فيه شيء من عظمة الله، وغموض الملائكة، وأنفاس إبليس"، والشاعر ينطبق عليه الوصف ذاته!